أين «ربيعنا» العربي؟!

«الربيع العربي» ليس هو اعتصامات ميدان التحرير في مصر ولا حرق الشاب التونسي محمد البوعزيزي لنفسه ليتجرأ التونسيون على نظام زين العابدين فيسقطوه كما أنه ليس إسقاط أبشع حكم عرفه التاريخ المعاصر الذي هو حكم العقيد معمر القذافي بمساندة طائرات حلف شمالي الأطلسي وكذلك فإنه ليس التسوية القبائلية التي تمت في اليمن (السعيد) ولا ظاهرة «حراكات» شوارعنا التي بقيت على مدى عام وأكثر تشكل «مفرخة» لقيادات تشبه غيوم الصيف التي قد تصاحبها رعود مدوية لكنها لا تحمل ولا قطرة ماءٍ واحدة.
إن «الربيع العربي» هو هذا الذي يجري في سوريا والمقصود ليس عمليات الذبح والسلخ التي يواصلها نظام بشار الأسد ولا إصرار الشعب السوري العجيب على إزاحة هذا النظام وإسقاطه وإنما حالة الجدل الذي تفجر في ضوء هذا كله حول الدولة المدنية وحول العلمانية والتعددية والديموقراطية وهو ما ترتب على ثورة ميدان التحرير من جدل لا يزال محتدماً حول هذه الأمور وحول الفرق بين منطق حسن البنا ومنطق رفاعه رافع الطهطاوي وهذا هو ما يحدث الآن في تونس ولكن بصورة أكثر وضوحاً وأشد فرزاً وأكثر جرأة وحيث المواجهات بين الليبراليين والعلمانيين من جهة والمحافظين من جهة أخرى اتخذت طابع صدامات الشوارع كما جرى في بعض الجامعات والمعاهد العلمية وكما جرى في شارع الحبيب بورقيبة قبل أيام.
أمَّا عندنا وللأسف فإن مثل هذا الفرز ،الذي هو ضروري جداً ولابد منه حتى لا يبقى «ربيعنا» مجرد سباقات شوارع ومجرد حروبٍ «دنكشوتية»، لم يحدث لا في المجتمع كله ولا بين ما يُعتبرون مثقفين وأصحاب وجهات نظر ولا داخل كل حزب من هذه الأحزاب المصاب بعضها بداء الجفاف الذهني وضمور العضلات التنظيمية ولا في الجامعات ولا في المدارس ولا في زوايا الكُتّاب وصفحات الصحف وهنا فإن الأنكى أن من يدَّعون أنهم يسار قومي ويسار أممي قد ذابوا في مهرجانات ساحة المسجد الحسيني الأسبوعية التي بقي يقيمها الإخوان المسلمون بالشعارات نفسها والهتافات إياها وبدون أي تبديل ولا تغيير وكأن حركة التاريخ قد توقفت عند لحظة معينة.
لقد مضى عام وأكثر تبدلت خلاله أمور كثيرة عندنا وعند غيرنا وفي العالم بأسره لكن هذه «الحراكات» بقيت تلهي الأردنيين وتشغلهم بمعارك جانبية وبقضايا وهمية وذلك إلى حد أن المواطن الأردني لم يعد ينظر بجدية إلى كل هذا الذي يجري بل وبات يعتبره مضيعة للوقت وإزعاجاً للناس... وأن بعضه مجرد ألاعيب دافعها حب الظهور وبهذا وإذا استمرت الأمور على هذا النحو فإننا سنجد أنفسنا قد خرجنا من المولد بلا حمص.
كان المفترض أن يفجر «الربيع العربي» عندنا هنا في الأردن ما فجره في مصر وفي تونس من جدل حول هوية الدولة وحول الديموقراطية والتعددية والمواطنة وأيضاً حول الوحدة العربية وحول الشعارات السقيمة التي بقينا نسمعها لأكثر من سبعين عاماً وحول طبيعة الاقتصاد الذي نريده والمناهج التعليمية التي نحن بحاجة وبأشد الحاجة إليها.. وأيضاً حول القضية الفلسطينية وحول عيوب تجارب الأشقاء في بعض «الأقطار» الشقيقة المجاورة والبعيدة.
لكن وللأسف بقيت هذه «الحراكات» تشغل أصحابها وتشغل الدولة بكل أجهزتها وتشغل الشعب الأردني كله بأمور ثانوية وباستعراضات «بهلوانية» لم يعد الأردنيون يهتمون بها وهي لم تعد تثيرهم وهكذا فقد مرَّ عام وأكثر لنجد أنه لم يتم إنجاز أي شيء على الإطلاق و»كأنك يا أبا زيد ما غزيت» ولنجد أيضاً أن هذا الربيع العربي اقترب من أن يتحول إلى خريف «أجْرد» بدون أن يزهر عندنا ولو حالة جدل جدي واحدة حول القضايا الرئيسية التي بدونها سنبقى نطارد سراباً بحجة الإصلاح والتغيير بينما حالنا كما جاء في بيت الشعر العربي القائل:
ألهى بني تغلبٍ عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم.
(الرأي)