مشكلة الفساد المالي عند العرب والمسلمين " نهابون وهابون"
الوضع الطبيعي أن يكون رزق الإنسان على مقدار كده وتعبه، مع اعتبار درجة عقله وذكائه. فالصانع تقدر أجرته بمقدار عمله، والتاجر يقدر ربحه بنسبة رأس ماله.
ولكن هذا الكلام، ينسحب فقط على الطبقة العامة من الشعب، من المزارعين، والباعة، وأهل الصناعات. أما في الخاصة وأتباعهم، فهو على نحو مختلف. فالرؤساء، والوزراء، ومن بعدهم ممن يعيشون حول البلاط، يرتزقون بالهبات والعطايا، من رجال الدولة. ومصدر هذه الأرزاق بيت المال، وهو في قبضة الحاكم، أو من يقوم مقامه من الوزراء، وقواد الجيش، والأمراء على حسب أطوار النفوذ. والأموال تأتي بيت المال من جباية الخراج "الضرائب".
إن الضرائب ثقيلة، لأن الحكومات تقاسم الناس غلاتهم، بالنصف أو الثلث. الأموال التي تبقى في خزانة الدولة، يعطى بعض رواتب لموظفيها، ويفرق سائرها فيمن بقي من الخاصة، بين جوائز ورواتب، فتتسع أموالهم بالجاه أكثر منها بالمال، فيضطرون إلى الإنفاق لحفظ مقامهم. فينفقون على من يتعلق بهم، فينتقل المال على هذه الصورة من الحاكم، ووزرائه، وعماله، إلى حواشيهم وأتباعهم، ومن هؤلاء إلى الباعة وأهل الأسواق، فيعود إلى العامة كأنه لم يؤخذ منهم.ولكن، من أين جاءت سياسة النهب والوهب؟ ولماذا يتمسك الناس بها، مع علمهم أنها غير مشروعة، وتخالف الدين، والعقل، والمنطق، والأخلاق، وفيها جرائم كبيرة، ضد العدل، والمساواة، وحقوق الإنسان؟تعالوا نستعرض بإيجاز، أخلاق السلب والنهب،في تاريخنا المجيد؟
إن أهل أثينا، وهم خاصة اليونانيين، كانوا لا يعملون عملاً، ولا يحترفون حرفة، في سبيل الرزق. وإنما كانت أرزاقهم من خزانة الدولة، يتناولونها رواتب في أوقات معينة، أو هبات في أوقات غير معينة، على مقتضيات الأحوال، أو على ما يلحقهم من الغنائم ونحوها. ولكنهم كانوا يشتغلون بالفكر والعلم، وبنوا أمجادا عظيمة، وصلت آثارها إلينا، وما زلنا نتعلم منهم الأخلاق، والسياسة، والعلم. يقول المؤرخون أن انهيار الإمبراطورية اليونانية، كان بسبب ما اختلط في علومها من الخرافات، والأساطير، والأوهام، والركون إلى الغيبيات، وهي آفات وصلت إليهم، نتيجة الحركة التجارية في البحار، واحتكاكهم بالتجار العرب والمسلمين، ومساعي الترجمة عن اليونانية.
أما المسلمون، فلم يأخذوا عنهم سوى نظرية الغزو وتقسيم الغنائم على القاعدين وغير القاعدين، وتوسعوا فيه حتى شمل كل مدينة وكل طبقة. لأن هذه السنة، كانت شائعة عن العرب من أيام الجاهلية.فأمير القبيلة، كان يغزو بقبيلته، فما وقع له من مال، ومن ماشية، فرقه في كبار رجاله، وهؤلاء يصرفونه في أهلهم وأتباعهم، ولذلك ذكروا من سنن العرب في الارتزاق أنهم "نهابون وهابون".
وكان العرب يكرهون اختزان، الأموال ويعدونه قبيحاً. والسبب في بقاء هذه السنة، مع ذهاب غيرها من المناقب، أنها لازمة لبقاء الدول في تلك العصور، وخصوصاً في الإسلام.
فالفساد المالي، جزء من تاريخنا العربي الإسلامي الأسود، وجذوره تكاد تصل إلى أبعد من ذلك، فيما نجده من أحاديث الأعطيات والهبات.ولذلك لم يترك لنا العصر الإسلامي الأول، حضارة تذكر، لان الأموال لم تنفق في سبيلها الصحيح، وهو عمارة الأرض، على نحو مما نجده في الأمم الأخرى، السابقة على الإسلام. بل إن المسلمين لم يفهموا عمارة الأرض، بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولذلك عمدوا في المدن المفتوحة، إلى هدم كل أشكال البناء، التي صنعتها الأمم السابقة، مثلما فعلوا في إيوان كسرى وغيره.
ولم يفهم المسلمون من سياسة الضرائب، سوى توزيعها على المسلمين بنسب متفاوتة، وبتقدير من الحاكم أو الخليفة. وهذا ما تؤكده حروب الردة،على الرغم من محاولة المؤرخين، تبيض وجه المسلمين، وبخاصة الخليفة الأول"أبو بكر الصديق". فقد وجد أهل القرى، بأن جمع الضرائب من قراهم، وإرسالها إلى بيت مال المسلمين، ثم ذهاب فقراء أهل القرى إلى المدينة، لتسلم حقوقهم المنقوصة، أمر لا يقبله العقل ولا المنطق، وإنما كانوا يفعلون ذلك احتراما لرغبة النبي، فلما مات النبي، قالوا ما لنا ولأبي بكر. فقرروا جمع الضرائب، وتوزيعها على فقراء أهل القرى، ومنعوها عن أبي بكر، فثارت ثائرة الخليفة الصديق، على اعتبار أن هذا الأمر يخالف السنة، أو يخالف ما كان عليه الحال في عهد النبي، وأعلن الحرب عليهم، على الرغم من معارضة عمر بن الخطاب، الذي رأى أن الأمر لا يستوجب إعلان الحرب. وحين تولى عمر بن الخطاب زمام الأمور، وافق أهل القرى على ما أرادوا، وجعله حقا مشروعا لهم.
ويسامح المسلمون أنفسهم بهذا الفساد، ويتأولونه في القرآن، بأنه رزق ساقه الله إلى المسلم، من حيث لا يحتسب، ويخلطون بينه وبين الصدقات المشروعة، والزكاة بأحكامها الثابتة.
وكان الصحابة في عصر الراشدين،لا يرون اختزان المال، جرياً على سنة العرب، أو عملاً بحديث رواه قيس بن عاصم بهذا المعنى، وهو قول النبي: "نعم المال الأربعون، والأكثر الستون، وويل لأصحاب المئتين". ولذلك كان الخلفاء الراشدون، لا يبقون في بيت المال شيئاً. على أن المسلمين في أيامهم، كانوا مشتغلين بما بين أيديهم من الغنائم، وكانوا لا يزالون في دهشة النبوة، والإخلاص في الجهاد، والخراج في أيامهم معتدل. فلم يكن يفيض منه شيء كثير، فلما طمع الأمويون بالملك، اتخذوا كل وسيلة في جمع المال، والاستكثار منه، وزادوا أعطيات الجند، ووهبوا، وأجازوا، وضاعفوا رواتب أبناء الصحابة، وغيرهم من القرشيين، أصحاب النفوذ. فكان هؤلاء يتوسعون في الإنفاق في بناء القصور، واقتناء الخدم، والجواري، ويهبون الشعراء، والندماء، والحاشية، والأتباع، فيذهب المال كما أتى.
كذلك كان يفعل عبيد الله بن عباس، وعبدالله بن جعفر، وسعيد بن العاص. فيفد أحدهم على معاوية أو يزيد، فيؤدي له عطاءه، وربما أهداه هدية سنية، فيعود إلى بلده، فيفرق المال جميعه في أهله وأعوانه، وكان الخلفاء يعرفون ذلك، ويعدون عطاءهم لهؤلاء، عطاء لأهل المدينة. حتى النساء من بنات الصحابة، كسكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، وغيرهما. فكانت عائشة هذه، تفد على الخليفة، وربما كانت في ضيق، فتشكو إليه فراغ يدها، فيأمر لها بمائة ألف درهم مثلاً، فلما تعود إلى الحجاز، يأتيها الشاعر، أو الفارس، فتعطيهم الألف بعد الألف، حتى تستنفد ما جاءت به، حتى الشعراء، كانوا يبذلون بعض جوائزهم فيمن حولهم، ولذلك كانوا مع كثرة ما يصل إلى أيديهم من المال، لا يزالون مدينين، ويموت أكثرهم فقراء. ومنذ طمع بنو أمية بالخلافة، استخدموا الأموال في ابتياع الأحزاب، واسترضاء كبار الرجال، فعودوا الناس العطاء، فلما قام العباسيون، لم يستطيعوا الرجوع عنه، بل تجاوزوه من بعض الوجوه، فصار السخاء ضروريا،ً لقيام الدولة، وإلا فسد عليها حماتها، وتمرد أهلها.
ولما أفضى الأمر إلى العباسيين، ساروا على هذه السنة، في الأعطيات والجوائز، وزادوا مقاديرها لتوفر الثروة في أيامهم، وكان أصحابهم يفرقونها في الناس. فموسى الكاظم، كان يقيم في المدينة، ويفد على بغداد، فيرده المهدي مثقلاً بالأموال، فلما يصل إلى المدينة، يجعلها صرراً يفرقها في أهلها. وكانوا يفعلون ذلك مع العمال، والكتاب، والشعراء، والمغنين، وهؤلاء ينفقون المال بالسخاء، على تفاوت في درجاته وسائر أحواله. وربما أنفقوا بعضه في حاشية الخليفة، أو غلمانه، ليسهلوا لهم الدخول عليه. وكان الاسترضاء بالطعام ونحوه، وسيلة للتقرب إلى رجال الدولة، والحظوة عند الحاكم.أما عامة الناس، فلا ينالون منها إلا الفتات.