نتنياهو إذ يضع «الجبنة السويسرية» جانباً؟!

لا تصغوا إلى أقوال بينيامين نتنياهو، بل أنظروا في أفعاله...هذا الرجل كما بقية سياسيي إسرائيل، وأكثر منهم جميعاً، يكذب كما يتنفس...وصفة “الكذب” لازمته منذ صعوده سلم الحياة السياسية الإسرائيلية، وهو معروف بها لدى الإسرائيليين أكثر من غيرهم...والأهم من كل هذا وذاك، أن الرجل بخبراته الواسعة في مجال “العلاقات العامة”، وإجادته البليغة للغة “الأمريكية”، قادرٌ على المناورة والمراوغة، وماهرٌ في التعمية على ما يريده حقاً، وخبيرٌ في أن “يظهر خلاف ما يبطن”...ولولا خشيتي من أن يغضب “كذّاب العرب الأشهر” في قبره، لكنت سميته “مسيلمة”.
لقد استعار مفرداتنا ليبيع لنا بضاعته الفاسدة...انتم تريدون دولة متصلة وقابلة للحياة...لا بأس، قالها من دون تردد أو تلعثم...أنتم لا تريدونها كقطعة جبن سويسرية، ملآ بالثقوب...وأنا لا أريدها كذلك....مسجلاً بذلك سابقة في مواقف “الليكود” ومواقفه شخصياً من هذه المسألة.
هذا الحديث سيطرب كثيرين في دوائر الغرب و”الوهن العربي”...بل وقد يجد من “يدوّره في ذهنه” في القيادة الفلسطينية...هل تغير نتنياهو...هل نحن أمام “نتنياهو 2” ؟...دعونا نفكر في الأمر...دعونا نختبر صدقية الرجل وجديته؟...لا يجوز أن نغلق الباب كلياً، دعونا نبقه “موارباً”...هكذا قد يبدأ البعض في التفكير، حتى وإن قال في أول ردة فعل له، بأن المسألة برمتها: مسرحية ضلال وتضليل.
“لا تنظروا إلى الدمع في عينية، بل أنظروا إلى ما فعلت يداه”، عبارة قرأناها صغاراً، وتذكرونها جميعكم بلا شك، عن “الصياد الذي يفصل رأس العصفور عن جسده وهو دامع العينين”....انظروا في توقيت إعلان نتنياهو عن “الدولة القابلة للحياة”، والذي صدر بعد سويعات قلائل من “شرعنة” البؤر الاستيطانية الثلاث...أنظروا إلى ما يفعله في القدس من تشريد وتهويد وتغيير معالم واستيلاء على الأرض وتهويد وأسرلة...أنظروا إلى ما يقوله عن “الأغوار” والتلال المطلّة عليها وموقعها الاستراتيجي في “نظرية الأمن الإسرائيلية”....أنظروا في حرب الاغتيالات والتصفيات والعدوانات في الضفة والقطاع والقدس، من دون هوادة ولا تمييز.
هذا هو نتنياهو الحقيقي، الأول والثاني والأخير، لا فرق بينهم على الإطلاق...كل ما في الأمر، أن الرجل مهتم بالحصول على “فرصة تفاوض” جديدة مع الفلسطينيين، لإقناع المجتمع الدولي، بأن الوقت لم يحن بعد، لمواراة “جيفة عملية السلام” الثرى، وأنه ما زال في الوقت متسع ومن الجهد بقية، لإنقاذها وإحيائها بل والحفاظ على زخمها.
هذا الخطاب ضروري لوقف التدهور في سمعة إسرائيل ومكانة حكومة اليمين واليمين المتطرف فيها...العملية السلمية، مطلوبة بذاتها، حتى وإن كانت جيفة متعفنة...من دونها ستواجه إسرائيل أسئلة لا طاقة لها بالإجابة عليها الآن أو في المدى القصير والمباشر: مستقبل السلطة، مصير سكان المناطق المحتلة وأهلها الأصليين، بدائل حل الدولتين، الاحتلال المباشر أو الاحتلال “الديلوكس”....إلى غير ما في هذا الإناء من أسئلة ينضح بها.
المطلوب إسرائيلياً الآن، الحفاظ على “تجارة الوهم” وبقاء سوقها ناشطاً ورائجاً وإخراجه من أزمة ركوده وكساده...على أن يتكفل نتنياهو – ليبرمان – باراك، بالباقي...هم يتكفلون بعملية تفاوضية لا حدود زمنية لها...هم قادرون على جعل كل “تفصيل” من تفاصيلها، كابوساً نحتاج لتبديده أشهراً وسنوات...هو يراهنون على الأنياب الفولاذية الحادية لجرافات الاستيطان، الكفيلة بقطع الطريق على “الدولة المتصلة” و”الجبنة السويسرية” سواء بسواء...هم قادرون على “جرجرتنا” لسنوات قادمة في مربعات العبث والانتظار والاجتماعات غير المنتهية، ألم ينجحوا في ذلك من قبل؟!...كل ذلك، وسط إطراء من المجتمع الدولي، وغيابٍ تام، لأي شكل من أشكال الضغوط والانتقادات...كل ذلك بهدف الاستمرار في احتواء الموقف الفلسطيني وضبطه تحت سقف “المفاوضات العبثية”....ومن أجل كل هذا وذاك وتلك، لا بأس من تصريح “جديد” هنا، وتأكيد قديم هناك.
لم يخرج نتنياهو عن جلده، ولن يفعل...علينا نحن أن نخرج من شرنقاتنا التي كبّلنا أنفسنا في قوقعاتها الضيقة...علينا أن “نقرأ من خارج الكتاب”...علينا أن “نطلّق” انقساماتنا وأوهامنا ورهاناتنا الخاسرة، مرة وإلى الأبد....قبل تصريحات نتنياهو الأخيرة، كانت “الرسالة” الشهيرة، التي يعكس التفكير فيها، مجرد التفكير، استمرار الأوهام والرهانات البائسة...تخيّلوا لو أن نتنياهو نطق بتصريحاته الأخيرة، قبل إتمام صياغة تلك الرسالة...الأرجح أن منسوب الوهم والرهان، كان ليعلو فوق سقف التوقعات...هذا أمرٌ لا يجوز أن يستمر...هذا طريق غير نافذ.( الدستور )