العمق المجتمعي للأزمة

الصورة التي تقدمها وسائل الإعلام المحلية والدولية حول الأوضاع الراهنة في الأردن، تجعل البلد يبدو وكأنه يعيش أزمة طارئة تكتشف للتو، وليست أزمة مركبة ومنتشرة عمرها عقود، ساهمت في تكوينها سياسات ونخب، ورحّلتها من مرحلة إلى أخرى، وخطورتها اليوم تتمثل في أنها تضرب في العمق الاجتماعي الأردني.
شهد الأردن منذ مطلع الألفية الجديدة 12 حكومة حاولت اجتياز مرحلة العبور نحو الإصلاح الفعلي، وحققت إنجازات وفق ظروفها، إلا أنها جميعا لم توفق في اجتياز الأزمة في بعديها الاقتصادي والسياسي؛ أي الدخول إلى عملية إصلاح حقيقي، بما يعني حسم أزمات الإصلاح والتنمية السياسية، والتحول بالبلاد نحو بناء قاعدة اجتماعية إنتاجية. أي إن هذه الحكومات ونخبها أعطيت 12 فرصة لإحداث التغيير، لكنها فشلت، واكتفت بإدارة الأزمة وليس البحث عن حلول لها.
الحكومات بدون استثناء اشتغلت على تلك الأزمة المركبة من مدخل إدارة الأزمات، وليس حلها؛ بل تعاملت معها وكأنها قدر لا مفر من استمراره، وقسمت الأزمة المركبة إلى أزمات فرعية. إلا أن أيا من الحكومات لم تحسم ولا واحدة من هذه الأزمات، ولم تطرح رؤية واضحة حولها. ولعل غياب تعريف رسمي واضح لمفهوم الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي هو أحد الأمثلة الراسخة على تجذر مدخل إدارة الأزمات وغياب مدخل الحلول.
ومع أن عقارب ساعة الإصلاح بقيت تتراجع وتراوح مكانها؛ تارة بفعل حالة الطوارئ المحيطة، وتارة أخرى بفعل تجاذبات الداخل، إلا أن الحكومات التي تعاملت مع مشروع الإصلاح لم تحدث اختراقا حقيقيا للعمق المجتمعي، أي أنها بقيت عاجزة أمام ما يسمى "أزمة الاختراق"، والتي تعني الوصول بخطاب الإصلاح إلى كافة فئات المجتمع الأردني؛ بمعنى وضع سياسات وبرامج تعمم على جميع المواطنين، وتخاطب تفاصيل حياتهم اليومية، وتصلهم في أبعد النقاط عن مركز النظام السياسي وأقربها. وتراكم هذا العجز جعل من الأزمة أسرع، فوصلت بكل تفاصيلها إلى العمق المجتمعي. فالمواطن العادي الذي كان في السابق يشعر فقط بأطراف الأزمة الاقتصادية، اليوم يربط بكل وضوح بين الأزمة السياسية والأزمة الاقتصادية. الأمر الذي ضاعف من أثر أزمة أخرى ممعنة، وهي "المشاركة".
ففي مرحلة ما قبل العبور نحو الإصلاح، تبدو أزمة المشاركة على محورين: الأول، التدفق المفاجئ للفاعلين السياسيين الجدد داخل العملية السياسية، وتضخم حجم النخب السياسية، ما يستدعي المزيد من التوترات والاستقطاب، مقابل عدم قدرة المؤسسات السياسية على استيعاب الجميع. أما المحور الثاني، فهو احتكار هذا الشكل من المشاركة المأزومة في المركز فقط، وغياب الأطراف وامتدادات المجتمع الأخرى.
وعلى المحورين السياسي والاجتماعي، لم توفق الحكومات في استيعاب أزمات الاندماج والتكامل، إذ نمت أزمة الاندماج الاجتماعي. بمعنى آخر، لم نوفق بعد في إنتاج "رأس المال الاجتماعي" الذي يشكل الأرض الخصبة للإصلاح في القيم والمعاني والإرادة المشتركة، ومنه تتشكل "الجماعة الوطنية على قاعدة الديمقراطية" التي تعمق استيعاب المجتمع للإصلاح، وتحرص دائما على إبقاء خطابات الإصلاح والتنمية السياسية في دائرة الحكمة والعقلانية واستشعار المصالح الوطنية.
وبقيت أزمة مأسسة الإصلاح الأكثر وضوحا، والمتمثلة في عدم القدرة على تحويل فعاليات وجهود الإصلاح إلى أطر مؤسسية وتشريعية واضحة، يمكن البناء التراكمي فوقها. إذ بقيت الحكومات مترددة في إطلاق القوانين الأساسية المرتبطة بالإصلاح السياسي، مثل قوانين الأحزاب والانتخاب ومكافحة الفساد. وتبدو أزمة القدرات التوزيعية للحكومات السابقة واحدة من أكثر الأزمات احتداما، والتي تعني التوزيع العادل للقوة والثروة والسلطة بين أقاليم الدولة وفئات المجتمع. وفي أحد جوانبها جربت مرات قليلة فكرة القفز على "التوازن الجهوي" في تشكيل النخب الحكومية، ولكنها فشلت فشلاً كبيرا في خلق العدالة في توزيع الموارد.
إدارة الأزمات وفق النموذج الأردني تعني أننا جميعا، حكومات ونخبا ومجتمعا، نتحدث ونجيد وصف الأزمات وتحديد ملامحها وخصائصها والإحالة عليها، ولكن لا أحد يتحدث بجرأة ووضوح عن الحلول. والخطورة الحقيقية حينما تلتقي الأزمة الاقتصادية والأزمة السياسية في منعطف واحد، وتصلان إلى العمق المجتمعي معا.
( الغد )