من «تلازم المسارين» إلى «تلازم الأزمتين»

يعيش لبنان على وقع الأزمة السورية ويومياتها...وما شهدته الساعات الثمانية والأربعين الفائتة من مواجهات دامية ومتنقلة، وتصاعد العنف والتوتر المذهبيين وقطع طرق و”تسكير” شوارع، يُرشح هذا البلد الصغير لأن يكون أولى ساحات الانفجار والتفجير المتأثرة بتداعيات الأزمة السورية وتطوراتها.
والحقيقة أن ثمة أطراف لها في مصلحة مباشرة في تجديد “تلازم المسارين” أو بالأحرى “الأزمتين” السورية واللبنانية...النظام وبعض حلفائه، يريدون ذلك من موقع البرهنة على أن استقرار الإقليم برُمته مرتبط باستقرار سوريا، وأن كأس الفوضى غير الخلاقة التي شربت دمشق منها، ستشرب منها عواصم عديدة، قريبة وبعيدة.
وثمة أطراف لبنانية وإقليمية، تراهن على تحويل لبنان، أو بالأحرى شماله (طرابلس وعكار)، إلى بوابة العسكرة والتسليح والتدخل الدولي في الأزمة السورية، بعد أن سُدّت البوابات التركية والأممية (والأردنية من قبل) في وجه مشاريع الممرات الإنسانية والملاذات الآمنة...ثمة من يريد أن يتعامل مع حمص وجوارها وطرابلس وجوارها، كوحدة جيوسياسية واحدة، منها يبدأ “رأس الجسر” اللوجستي والعسكري المفضي لإسقاط النظام.
على أن غالبية ساحقة من اللبنانيين، ترى أن بلدهم المُنهك بحروبه وحروب الآخرين عليه، يُراد له أن يدفع من جديد، ثمن حروب العواصم العربية والإقليمية، وأن “لبنان الساحة”، ساحة تصفية الحسابات الإقليمية والدولية، قد عاد ليحل محل لبنان الوطن، والذي جسّده (أو لامسه على الأقل) شعار “النأي بالنفس” الذي رفعته كثرة من اللبنانيين منذ اندلاع الأزمة السورية، وصمد حتى قبل أيام، في وجه عاتيات الثورة السورية ونجح في تجنيب لبنان، وحتى قبل أيام فقط، مخاطر الانزلاق في أتون الأزمة السورية.
ولعل أخطر ما يمكن أن يواجهه لبنان في المرحلة المقبلة، هو استطالة الأزمة السورية واستعصاء الحسم بين أفرقائها المختلفين، وهو سيناريو مرجح على أية حال وفقاً لأغلب التقديرات والترجيحات، خصوصاً في ظل توالي التأكيدات الدولية المُشدّدة على رفض التدخل والحسم العسكريين، ومع بقاء روسيا والصين وإيران على مواقفها الداعمة بقوة للنظام في دمشق، وفي ظل استمرار تماسك النظام ببنيته المدنية والعسكرية المختلفة، ومع تتالي تشققات المعارضة وانقساماتها وتآكل صديقتها ونفوذها.
مثل هذا السيناريو (طويل الأمد) لن يدفع ببعض الأطراف السورية والإقليمية الأكثر تشدداً في مواقفها المناهضة للنظام السوري والمطالبة بتغييره، للتراجع والانكفاء كما قد تفترض بعض التقديرات، بل ربما يشجّعها على البحث عن وسائل وطرق ومنافذ لتسريع الحسم وتصعيد الموقف واستدراج التدخل الدولي، وهذا ما تشير إليه مواقف بعض العواصم الخليجية من جهة ونشاطات بعض المعارضة السورية المسلحة، والتي تتجسد على نحو خاص في التيار الإسلامي بمكونيه، السلفي والإخواني من جهة أخرى.
وتنظر هذه الأطراف للبنان بوصفه “الخاصرة الأضعف” لسوريا، بعد أن نجح الأردن (على الحدود الجنوبية) في مقاومة ضغوط الانخراط في “مشروع التغيير بالقوة” في سوريا، وبعد أن أظهرت تركيا (على حدودها الشمالية) تردداً أزعج كثيرا من المعارضين السوريين وحلفائهم، فيما العراق على الشطر الشرقي من الحدود يقف بكتلته الرئيسة الحاكمة على مسافة أقرب للنظام منه إلى المعارضة، والمؤكد أنه ليس بوارد تسهيل أي تدخلات عسكرية أو تسللات أمنية عبر حدوده الطويلة مع سوريا.
ولأن خريطة لبنان كانت ولاتزال، صورة مختصرة لخريطة الانقسامات والمحاور والاصطفافات العربية والإقليمية (والدولية إلى حد ما)، فقد كان طبيعياً أن يكون أول المتأثرين بالتطورات الناجمة عن الاستعصاء السوري...وأن تجد أطرافٌ عديدة على أرضه وبين أبنائه، “رؤوس جسور” لتدخلاتهم ومشاريعهم الإقليمية، وهذا ما أظهرته على نحو دامٍ ومقلق، تطورات الأيام الأخيرة.
مثل هذا “الترابط بين الأزمتين” السورية واللبنانية مزعجٌ حقاً للنظام في دمشق، بيد أنه ليس كفيل وحده بإحداث الانقلاب المطلوب في معادلات القوى وتوازناتها على الأرض السورية، بل ويمكن القول أن النظام قد يجد في تطورات الأزمة السورية ما يُعينه على “تسويق روايته وترويجها”، وما يمكنه من استدرار الدعم الشعبي والرسمي، العربي و(بعض) الدولي...والمسألة من قبل ومن بعد، رهن بتوازنات القوى في لبنان والتي يصعب الجزم بأنها تميل لصالح خصوم دمشق، ما يُرشح لبنان، وهذا هو الأهم، لأن يكون شريك سوريا الرئيس في تسديد فاتورة الدم.( الدستور )