لماذا كان كل ذلك الرفض؟
في ذلك اليوم و بينما كانت الحياة تعلن الخريف الذي يحمل ضمن طياته طعما آخر للعمر و بينما كنت اتكىء على كرسي وقد بدأت ملامح التعب و الكآبة ترتسم على وجهي افتش عن معنى تلك النظرة التي كانت ترمقني بها والدتي و أحاول أن أفك مفردات الكلام التي كانت تريد مني أن أعيها و أبحث عن رابط قد يستطيع أن يصلني بما تود التلميح به .. في تلك الأثناء كان هناك سؤال يعتري مخيلتي يمزق كل افكاري و يشتتني كلما حاولت أن أركز نظري فيها و يبعدني عن عينيها و كأنه يرفض الاستسلام و يأبى إلا أن يكسر حالة الصمت التي كانت تحيط بي لأنطق به كان سؤالي لها واضحا، امي كيف كانت طفولتي؟ كنت مؤمنة في تلك اللحظة بأن حياة المرء المستقبلية تبان من طفولته فكيفما تكون الطفولة يكون الدرب الذي سنسير عليه واضحا.
جاء جوابها ليكون بمثابة الصاعقة لي و تخبرني بشيء ربما كان مستغربا لدي قالت: كنت رافضة للحياة و متحدية لنا بكل قوة ، يمكن لطفل وليد ان يمتلكها لم ترضي بأن ترضعي أو حتى أن تأخذي الحليب بوسيلة أخرى لدرجةٍ كنا خائفين بأن تفارقي الحياة بسبب ذلك.
ذلك الرد الذي زاد من صمتي صمتا و من سكوني سكونا و أطبق عليّ بين جدران التفكير و متاهات الضياع بين تفسيرات لا تعرف النهاية لتصرف كذلك فأنا لا أذكر شيئا من تلك اللحظات و لا استطيع ان أتقمص شخصية طفل وليد و اعرف تلك النمطية التي قد يفكر بها و بينما كنت أحاول عبثا أن أجد التفسير المنطقي للتصرف غير أن ارادة القدر شاءت ذلك جاء صوتها ليباغتني مازحا قائلا: ربما لم يكن يعجبك أن تولدي في هذه العائلة او لم يعجبك والداكي فرفضت ذلك بصمتك و اضرابك عن الطعام فنظرت اليها و قد بدأ الشك يتسلل خلسة الى قلبي الذي كان مستغربا ايضا من تصرفي ذاك و لم أقل لها سوى كلمة واحدة: أتعتقدين ذلك؟ و ما لبثت سوى برهة حتى عاود الضباب اجتياحي و عاود البحث فعاليته في ايجاد ما أبحث عنه، أتراني كنت فعلا كما تقول والدتي ؟ لا فأنا لم أكن أعرفهم و ها أنا اليوم أحبهم أكثر من نفسي، أم تراني كنت أرفض شيئا آخر و قد أخطأت أمي التعبير عنه أو معرفته و بين مد و جزر و تقليب لصفحات العمر و قراءة حثيثة لما بين سطور الأيام و بين شاطئ كان مرساة لافكاري و بحر كان هائجا يجتث كل تلك الافكار قبل أن احللها و بعد تفكير عميق وصلت الى نتيجة وحيدة و تكاد تكون الاوحد وهي أن أمي أخطأت التعبير فعلا فأنا لا أرفض الحياة كما قالت لانها الهدية الأغلى التي وهبني اياها الله و لم أكن يوما غير مؤمنة بأن حياة المرء هي أغلى شيء يمكن امتلاكه و يجب المحافظة عليه و ربما ما كنت اريد ان أعبر عن رفضي له ذلك الظلم الذي يسود حياتنا ما كنت أرفضه هو تلك الغفوة الطويلة للعدالة هو ذلك المدى البعيد من التمييز بين بني البشر هي تلك السهام التي أدمت الضعفاء و زادتهم ضعفا هو ذلك السجن الذي جعل الفرح حبيسا لاحزان العمر هي تلك القضبان التي احتجزت خلفها فجرا مليئا بالاحلام.
و أن التحدي الذي تكلمت عنه أمي ما كان الا اعلان موقف صريح من ما يجب أن يسود في هذه الدنيا و لكن أتراني كنت قادرة في ذلك العمرعلى معرفة كل تلك الامور أم انني كنت أسابق زمني لاتمكن من الحصول على كل تلك المعرفة و هو ما دفعني الى أن اكون واقعية في نقل الاحداث رغم انني اصبحت الآن أكثر تفاؤل بغدٍ يرسم خارطة العدالة بألوان السلام.
ربما كانت ثورتي هاهناك تعلن بداية انتفاضة جديدة لطفل حمل في داخله إرادة الحياة و كان متمسكا بان يكون رفاقه أيضا يمتلكون هذه الارادة و يرفضون خيار الموت و كأن رفض الحياة يوازي رفض الموت اذن هي جدلية صعبة بين متناقضين.
وما وصلت اليه بعد طول تفكير و بعد طول انتظار لولادة تلك النتيجة هو ان طفولتي لم تكن الا سلسلة من الرفض لواقع أليم ما كنت لأتمنى أن اعيشه و ان حياتي الماضية لم تكن سوى رحلة من الرفض للاستسلام و التسليم و المحاولة الجادة في التغيير و ها انا اليوم أسأل نفسي أتراني استطعت ذلك؟ و أقف حائرة أمام الاجابة التي تأبى المجيء.
و بعد أن تلاشت شطآن الكآبة التي اجتاحتني و انتهت ملامح التعب التي انتابتني و بعد ان افرغت اقلامي على سطور اشجاني و تخلصت من جميع عذاباتي و ضمدت كل جراحاتي و رست سفينتي في بحور احلامي التي لا تعرف النهاية و بعد أن بدد التفاؤل ضباب احزاني و رأيت الحياة من منظار آمالي حددت جميع شعاراتي ووضعت عناوين حياتي و نسجت فصول ايامي و كتبت كتاب اعوامي فكان شعاري العدالة و كان عنواني البسمة و كان فصلي هو السلام و كان كتابي هو الحياة.