البحث عن روحية الاستقلال

الذين دفعوا مصعب خليفة، جهارا نهارا، إلى الانتحار بعد أن فقد عمله ومصدر رزقه، والذين أنهكوا البلاد بالتستر على الفساد؛ هؤلاء ضد الاستقلال، ولا يريدون دولة تتجاوز أزماتها وتعبر نحو ديمقراطية وطنية ناضجة.يوم الاستقلال يحمل قيمة رمزية ومعنوية لا تكتفي باستعادة أزمنة التأسيس واستذكار التضحيات، بل يمثل محطة لاستشراف المستقبل، من خلال قراءة الواقع وتفحص الخيارات والفرص والتحديات. فلا بد من الاعتراف أن الأردنيين اليوم أكثر قلقا من أي وقت مضى على المستقبل، وهم أكثر وعيا بمصادر القلق والمصائر التي تنتظر المنطقة حولهم. ولم يعد سرا أن القواعد الشعبية الأردنية تدرك، قبل النخب، أن البلاد تقف على محطة قد تكون ملتقى للطرق، وقد تكون المفترق الكبير أيضا.أدار الأردن الرسمي والشعبي موقفه في رحى حالة الطوارئ التاريخية الإقليمية على مدى العقود الماضية باستراتيجية التكيف الإيجابي، وحَوّل مقولة الجغرافيا السياسية العازلة من تهمة أيديولوجية إلى صيغة ذكية للاستقرار والاستمرار، وهذا ما يجب أن يحسب تاريخيا للدولة الأردنية لا أن يحسب عليها. واليوم، لا يقل الاشتباك الإقليمي، بأبعاده التاريخية والصراعية، أهمية عن الاشتباك الداخلي الذي يأخذ الأولية القصوى، ويحتاج قفزة واقعية من الوحل، تشبه لحظة الاستقلال، في التحرر من تبعات السياسات والممارسات التي قادت الدولة الأردنية إلى هذه الأزمة المركبة.مصادر القلق الأردني تأخذ مناحي جديدة هذه المرة مع ازدياد شعور النخبة السياسية بحدة ردود فعل القواعد الاجتماعية المحتملة، وحذرها الكبير حيال هذا التحدي، مقابل ازدياد شعور النخبة ذاتها بأن التطورات الداخلية والإقليمية تدفع بالأردن كي يكون وحيدا في مواجهة ما يأتي من الخارج؛ في ضوء ظروف اقتصادية صعبة، بل وكارثية، يزداد وقعها مع ازدياد أزمة الطاقة العالمية إلى مستويات لا يمكن التكيف معها مع نهاية الصيف وبداية الشتاء القادم.يحدث ذلك في الوقت الذي نراقب فيه مشهد تراجع التحالفات الإقليمية، وتغير نمط التفاعلات التي سادت خلال العقد الماضي، وشبه تخل عربي عن تقديم المساعدات للأردن والوقوف إلى جانبه في تحمل أعباء الصراعات الإقليمية التي أنهكته على مدى عقود. ويتزامن كل ذلك مع ازدياد الضغوط الخارجية التي تدفع نحو شد انتباه الأردن الرسمي للقبول بأي صفقة متاحة.يعمد بعض الدول وبعض النخب السياسية، بين فترة وأخرى، إلى صناعة لحظة خطر كي تعيد تجديد استقلالها، وتخرج مجتمعاتها من الاسترخاء والركون. هذه اللحظة في حالتنا متوفرة ولا نحتاج إلى صناعتها، بل نحتاج إلى إرادة استعادة روحية الاستقلال للرد عليها.الأردن يحتاج مراجعة استراتيجية جذرية لمواجهة خيارات المستقبل القريب. وهذه المراجعة تحتاج حضور روح الدولة الواثقة من الذات والمستقبل، القادرة على وصف اللحظة بشكل دقيق واستراتيجي، والقادرة على تعبئة الموارد في مواجهتها، وتعبئة اجتماعية أخرى لها شروطها التي تنضج فيها، والقادرة على جراحة سياسية وتنموية بدون تخدير. إنها لحظة أشبه بالاستقلال؛ فالدولة العاقلة التي تطمح للاستقرار القائم على شرعية العدالة والإنجاز هي التي تجدد استقلالها كل بضعة عقود. (الغد)