اشتباكات على الجهتين

مع البدء التدريجي برفع الأسعار لسلع استراتيجية مولدة لمصفوفة لا تنتهي من السلع والخدمات الأخرى، تدخل الدولة بكافة مؤسساتها في مرحلة جديدة من الاشتباك مع الداخل المستمر منذ قرابة عامين. يضاف إلى ذلك تصاعد وتيرة اشتباك خارجي غير معلن، تبدو بعض ملامحه أحيانا في سلوك الحلفاء القريبين والبعيدين أكثر من الخصوم التقليديين.الاشتباك الذي يزداد تعقيدا على الجبهتين، يُدخل البلاد إلى مرحلة الضوء الأصفر؛ أي ما قبل الأحمر بقليل! ما يستدعي الدعوة إلى محاولة فهم ما تحاول أن تقوم به الحكومة الحالية من خطوات في سبيل ترميم بنية الاقتصاد المختلة. لكن أي محاولة لتفهم إجراءات وقرارات غير شعبية بهذه الوصفة، لم يتوفر لها السياق أو البيئة التي تجعل الناس يتحملون آلام الكي أملا في الشفاء، ستكون ضحكا على الذقون.لقد أضاعت أربع حكومات فرصا حقيقية تجعل الناس يتفهمون هذه القرارات ويتكيفون معها؛ فلا مسار حقيقيا للإصلاح، ولا مؤسسات سياسية قوية، ولا برلمان يمتلك شرعية تمثيل الناس.على الجبهة الأخرى؛ يشهد الأردن منذ أشهر طويلة، سلسلة مكثفة من الضغوط الإقليمية والدولية التي أصبحت تأخذ منحنيات متعددة. وليس سراً حجم وكثافة الضغوط والحملات التي تمارسها إسرائيل ودول إقليمية أخرى وجهات أميركية في ملفات متعددة على الأردن، من أجل مواقف أو قرارات ما في ملف التسوية الميت، أو على الحدود الشمالية الساخنة. ومع اقتراب الاستحقاقات الأميركية الداخلية ذات الصلة بالانتخابات الرئاسية، وبداية تراجع الخطاب الرئاسي الأميركي، بدأت تتشكل نسخة جديدة من "أوباما الجمهوري" الأقرب إلى التصور الإسرائيلي اليميني لمستقبل حل الصراع، إذ يبدو واضحاً كثافة الضغوط المتنامية التي تستخدم أدوات سياسية واستراتيجية واقتصادية وإعلامية على الأردن، والتي لا يمكن تفسيرها إلا فيما يخدم المصالح الإسرائيلية، وفي لحظة من الظلامية المتطرفة التي أفرغت جيوب الرعاة التاريخيين للتسوية من كل رهاناتهم.إحدى نقاط التقاطع في اشتباك الجبهتين تلتقي على تحويل مشروع الإصلاح السياسي الأردني الذي نعده مطلباً وطنياً مصيرياً إلى مجرد مفهوم ضيق، يتحدث عن محاصصة سياسية مباشرة؛ إذ تتصاعد الخطوات في هذا الاتجاه في اللقاءات المغلقة والتقارير والوثائق التي تصدر هنا وفي جهات متعددة من العالم، كما الضغوط التي تستثمر حالة الاختناق الاقتصادي المحلي والهشاشة السياسية الإقليمية.وعلى هذا الأساس، ثمة اشتباك حقيقي يعيشه الأردن ما تزال الاستجابة الرسمية والشعبية له أقل من الحد الأدنى المطلوب، وقواعد الاشتباك في حدودها الراهنة تدور حول الاستخدام الأكثر كفاءة للأدوات السياسية والإعلامية.ما تزال الخطة البديلة غير موجودة، وعلى أحسن تقدير غير ناضجة؛ ما قد يُدخل البلاد في نوع من الفراغ السياسي مع استمرار تراكم أنماط مباغتة من أزمات الاختلالات السياسية والاقتصادية الاجتماعية، إذ لم يطور صناع القرار الأردني إلى هذا اليوم نموذجهم الخاص بالبحث عن بدائل الإصلاح والتعامل مع الأزمات بالطريقة والمنهج والمحتوى التي تخدم الأهداف الاستراتيجية للدولة.نحن أمام تحول خطر، نفقد من خلاله واحدة من الميزات التي تمتعت بها الدولة على مدى عقود، والمتمثلة في القدرة على تقدير الموقف الاستراتيجي الداخلي والإقليمي، والاستجابة الذكية لمتطلباته. (الغد)