ثلث مليار علامة تعجب!!

كنا قد قرأنا عشرات الكتب ومئات المقالات عن الفارق بين حربي حزيران 1967 واكتوبر 1973 وفيها مقارنات عسكرية وآراء حول متغيرات السياسة الدولية والوضع الاقليمي. لكن ما سمعته بعد ذلك من اصدقاء مصريين منهم مثقفون وعسكريون متقاعدون وباحثون في علمي النفس والاجتماع، استوقفني اكثر من كل تلك الكتب والمقالات، وهو يتلخص بعبارة واحدة، هي ان جيل حرب اكتوبر كان اكثره من المتعلمين والمجندين من خريجي الاكاديميات والجامعات، وذلك أمر له دلالات فاتت الكثير من الناس. والفارق الآخر بين الحربين حسب ما سمعت من اصدقاء لهم صلة بالبحث الاجتماعي والقوانين، هو ان منسوب الجريمة بمختلف فئاتها تراجع بشكل ملحوظ خلال تلك الحرب.
ورأى بعضهم ان السبب في ذلك اضافة الى المناخ الوطني العام، هو ان الفرد يشعر بالخجل اذا كانت بلاده مشتبكة في حرب والناس يموتون دفاعاً عنها، فلا تكون الجرأة ذاتها على اقتراف الجرائم بدءاً من السرقة.
واذا اخذت هاتين الملاحظتين على محمل الجد وأنا أشك في ذلك، لأن كل ما هو جوهري وجدير بالتأمل ضائع في هذا الزحام تحت الاقدام، فان ما جرى في عالمنا العربي منذ حروب الخليج الثلاث، وبالتحديد احتلال العراق والمشاهد التي اقترنت بهذا الاحتلال وما أعقبه كان له دور حاسم في الخلخلة الزلزالية التي عصفت بمنظومة القيم، فلم يعد في عالمنا من الكوابح الذاتية ما يبشر بأن متوالية التحلل وشيكة الانتهاء.. فالاطفال الذين شاهدوا آباءهم وأمهاتهم يهتفون لزعماء ويعلقون صورهم على الجدران أو يزهون بأنهم على صلة او قرابة من الدرجة الالف مع هذا الزعيم أو زوجته او سائقه، ضبطوا هؤلاء الآباء وهم يصفعون الزعيم بالاحذية او يطالبون بإعدامه عدة مرات.. انها سلسلة من الصدمات بدءاً من فقدان الاطروحات القومية لصدقيتها، وليس انتهاء بسقوط هيبة الدولة ومن يمثلونها، وكانت تحتاج تربويا الى ما يشبه مصدات الصواعق، لكن ما حدث كالعادة، هو استخفاف مبالغ فيه بكل ما له علاقة بالتربية وعلم النفس والبحوث الاجتماعية، ولم تتكرم المعاهد ومراكز الابحاث المتخصصة - هذا اذا كان لها وجود - بتقديم اية احصاءات عن ارتفاع او انحسار منسوب الجرائم في اعقاب احداث معينة أو بالتزامن معها.
أما من يتحسرون على زمن مضى كان فيه من الضوابط والكوابح ما يصون المجتمع من الاوبئة الطاردة والتحلل، فهم يصابون بضيق النفس اذا حاول أحد الناس تحليل الظاهرة الغامضة لديهم.
في الماضي كان هناك فقر ربما أشد من هذا الفقر الجديد الذي يحتاج الى اعادة تعريف، لأن الفقير الآن ليس من لا يجد القوت والمأوى أو يجدهما بالحد الادنى، بل هو من لا يملك سيارة حديثة وموبايل اكثر تعقيدا، ويشتري في اليوم التالي نصف السلع التي شاهد اعلاناتها في الليل وأغرق الشاشة بلعابه. ما جرى لنا ولاطفالنا منذ ثلاثين عاما على الاقل بدأت باجتياح لبنان واستباحته وسط صمت قومي ثم شهدت سقوط عواصم كبرى والتنكيل بقادة أغرقوا في التصفيق المضلل، أدى بالضرورة الى هذه الشكوك بكل المواعظ ومنظومة القيم والاعراف، اما القادم فقد لا يبلغه حتى الخيال! ( الدستور )