مزيد من الانسحاب.. مزيد من الاحتكار

تأتي الخطوات الرسمية التي ترسخ تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي، في كل مرة، لتفتح المزيد من الطرق والدروب، الواضحة والخفية، للمزيد من الاحتكار.
لا يقصد بذلك احتكار السلع والخدمات المرتبطة بالاستهلاك اليومي للناس، بل يذهب ذلك إلى السياسة والإعلام والثقافة، وكل البيئات المنتجة للقوة في المجتمع.
لاحظوا تاريخ انسحاب الدولة من دورها الاجتماعي؛ هل تم تعويضه بأدوات فاعلة للمشاركة؟ ولاحظوا مسلسل رفع الدعم الحكومي عن بعض السلع والخدمات؛ هل تقابله إجراءات جادة لتقليل من سطوة السوق ومن سلوكها الانتهازي؟ هناك علاقة طردية بين موجات رفع الدعم الحكومي وبين النمو الاحتكاري للسوق، وازدياد مساحة تراكم الثروات السريعة وغير الطبيعية؟
في الحقيقة، هناك تستر ومحاولة تغافل واضحة عن احتكارات تضرب في عرض سوق صغيرة شبه رأسمالية، لا تتوقف عند بعض السلع الاستراتيجية، مثل الحديد والإسمنت واللحوم وبعض خدمات الاتصالات وبعض الخدمات السياحية، بل تصل أحيانا إلى سلع أساسية ترتبط بحياة الناس اليومية. ألم تضرب الاحتكارات حتى سوق الخضار والفواكه، فيما تتحكم احتكارات أخرى بالعديد من السلع الغذائية الأساسية؟
يُفسر تاريخ الاحتكار في الأردن ظاهرتين مهمتين: الأولى، تتعلق بانعكاس تحطيم حلقات الاحتكار في بعض السلع والخدمات على جيوب المواطنين في سلع أساسية مهمة وفي جودة المنتجات أيضا، الأمر الذي كان يدعو ضمير المجتمع دائما إلى التساؤل: أين كان ذلك في السابق؟ ولدينا أمثلة كثيرة على التغير الذي حدث بعد تحرير بعض السلع والخدمات من السيطرة الاحتكارية، لعل أهمها الخدمات الأساسية في قطاع الاتصالات، وتحرير قطاع النقل السياحي وغيرهما.
أما الظاهرة الثانية التي يفسرها تاريخ الاحتكارات في الأردن، فهي الثراء الفاحش والسريع لطبقة اجتماعية ركبت هذه الموجات وكرستها، وراكمت ثروات كبيرة معظمها تستثمر اليوم خارج السوق الأردنية.
الاحتكار حسب الأدبيات الرأسمالية نفسها، هو أسوأ ما قد يصيب السوق الرأسمالية من علل، وأكبر مصدر تهديد لها. ومع هذا، لا توجد أسواق بدون احتكارات، ولكن معظم دول العالم، وأعرق الرأسماليات، هذبت مصادر الاحتكار وقلمت أظفاره، وأداتها الأساسية التشريعات والرقابة الإجرائية. هذا لم يحدث لدينا، على الرغم من وجود تشريع عصري لمنع الاحتكار (قانون المنافسة؛ منذ 2002 قانون مؤقت، وفي العام 2004 قانون دائم). ومن المفترض أن هذا التشريع يوضح ويلزم إجرائيا السوق بالتحصن ضد كافة أشكال الاحتكارات، وكافة أشكال الممارسات المشبوهة وأساليب التواطؤ في التحكم بالأسعار أو فرض سلعة أو خدمة بعينها. لكن الحال لم تتغير في خلق سوق مقاومة لهذه التشوهات، وعمليا لم تتغير لعبة المصالح قبل القانون وبعده، وهي اللعبة التي أثبتت أنها قادرة على إعادة إنتاج الاحتكار بوجود القانون أو عدمه. وللأسف، لا تبرز هذه التشوهات إلا في أوقات الأزمات كما يحدث اليوم.
الخطورة حينما يمتد الاحتكار من السلع والخدمات إلى السياسة والإعلام والثقافة أيضا، ومن السوق إلى المجال العام؛ يحدث ذلك حينما تنشط جماعات صغيرة بدور التركيز والإغراق المعلوماتي والإعلامي الموجه؛ ويحدث ذلك أيضا حينما تتقاسم القوى السياسية والاقتصادية منابر وسائل الإعلام لتضيق المجال العام الوطني، وتوجيهه نحو ردود الفعل والموقف من الأجندات والتفاعلات الخارجية، بينما تكون هذه الوسائل غائبة عما يحدث في الداخل أو منسحبة بخجل وخوف، وكأن لا فرق بين الاحتكار في سوق السلع والاحتكار في المجال العام. ( الغد )