الوعي بقوانين الهزيمة

وكأن الدنيا لم تتغير؛ وإن تغيرت، فنحو المزيد من السوء هنا، مقابل بعض الانفراج هناك، بالحد الذي يكفل استمرار إدارة الصراع نحو المزيد من الاستيطان والمصادرة، وانكشاف المزيد من مصادر التهديد في الداخل وفي المحيط الإقليمي وفي البيئة الدولية، واتساع الفجوة في موازين القوى. هذا هو المشهد بعد مرور 45 عاما على هزيمة حزيران. المهم أن الشيء الوحيد الذي ينبغي رصده، رغم استمرار كل هذا الانحدار، هو ما يمكن أن يسجل للثورات العربية واحتمالات حضورها في القضية الفلسطينية المتمثل اليوم في المزيد من الوعي بقوانين الهزيمة!فقد كان من المؤمل أن تفجر رياح الربيع العربي ثورة أخرى في السياسة، تبدأ بإعادة تعريف مواقف الأطراف العربية من الجذور البعيدة للاستبداد؛ أي تحريك البحيرة التاريخية الراكدة في إدارة الصراع حول القضية الفلسطينية، وإعادة صياغة شرعية مختلفة لميلاد سياسة جديدة تحرك الصراع الأساسي في الشرق الأوسط الذي أنهك كل شيء حولنا، وبرر كل المصائب والمحن، بما فيها الأنظمة المستبدة التي سقطت وتلك التي تنتظر.وكان من المبرر أن يقبل الرأي العام العربي تراجع مكانة القضية الفلسطينية في أولويات السياسة الدولية والإقليمية خلال العام الأول للثورات. وكان من المبرر، إلى حد ما، أن تغيب مركزية الصراع في خطاب الثورات وفي ميادينها. ولكن ما يستدعي طرح الأسئلة الكبيرة هو كيف تحول تاريخ الصراع من التحريك إلى الجمود، ومن الجمود إلى الموت؟ الخلاصة الثانية هنا؛ أن السياسة في الشرق الأوسط تتبدل ولكنها لا تتغير.لم تتغير إسرائيل بعد أربعة عقود ونصف العقد، بل حافظت على الاستحواذ على عناصر القوة كافة في المشهد الاستراتيجي الإقليمي. ورغم الفرص الهائلة التي أتيحت للعرب في أكثر من مرة لتغيير قواعد اللعبة الاستراتيجية في المنطقة بأكملها، إلا أنه لم يحدث التغيير في لعبة القوة. في المقابل، استطاعت إسرائيل تحويل العديد من عناصر الضعف التقليدية إلى عناصر قوة مضافة، من خلال القدرة على الحركة وصنع الأحداث والتفاعل. ومع كل هذا بقيت عناصر قوة غير مطلقة، وهذه هي الخلاصة الثالثة.المهم في هذا المجال استمرار دوائر النفوذ الاستراتيجية الكامنة في العلاقات الدولية، والتي اعتمدت عليها إسرائيل في بناء قوتها ونفوذها، وعدم تعرضها لأي تراجع نتيجة الهزات العنيفة وانهدام معمار التحالفات الدولية والإقليمية أكثر من مرة خلال العقد الماضي.المناخ الفكري العربي السائد يبتعد عن تناول دور علاقات القوة في تحديد مسارات العلاقة بين الآيديولوجيا والسياسة والاستراتيجيا في الحالة الإسرائيلية، ما أضعف الرؤية التفسيرية لما يحدث اليوم، وأسهم أيضاً في زيادة قوة واحدة من الأساطير السائدة والتي تحاول التقليل من قدرة العرب على تغيير قواعد اللعبة الدولية الكامنة في عناصر القوة.المسألة الأجدر بالانتباه هي أن الغرب يمارس عقلانية تاريخية واضحة ومعلنة في التعامل مع قضايا المنطقة. وتستند هذه العقلانية على مصالحه الصريحة. وقد وصل إلى قناعة أن النظام الرتيب الذي بقي يهيمن على الشرق الأوسط خمسة عقود في طريقه إلى الزوال، وهذا ما حدث بالفعل. ولا توجد لدى الغرب مشكلة في التعامل مع الأيديولوجيات، ما دامت قادرة على التعايش مع التعددية وأصول الديمقراطية، وهذا ما سيحدث. كل هذا يدعو للبحث عن عناوين جديدة للقضية الفلسطينية تستند إلى وعي قوانين الهزيمة، أي البحث عن عقلانية جديدة.
( الغد )