التسويق السياسي للفشل

تبدو قدرة النظام الإعلامي على رفع التطلعات مهمة وجيهة في تهيئة المجتمعات لقبول التغيير، وتحفيز عمليات أوسع للمشاركة وبناء الدافعية المجتمعية نحو التغيير. لكن المشكلة تبدو حينما تتحول أدوات التسويق السياسي، وعلى رأسها وسائل الإعلام، إلى أدوات لتسويق الفشل السياسي، كما يحدث مع العودة لتسويق قانون الصوت الواحد تحت غطاء الصيغة المطروحة من قبل مجلس النواب بعد أن رفضها القريب والبعيد.خلال أقل من عشرين شهرا، مورس على الناس تسويق عشرات الأفكار في مجال الإصلاح السياسي، وأديرت حول تلك الأفكار حوارات طويلة عريضة، وصلت إلى أبعد المحافظات. وفي كل مرة، حينما يكاد الوفاق الوطني يصل إلى درجة مقبولة يحدث الانسحاب المربك.الصيغة التي يروج لها مجلس النواب اليوم، والتي تستعيد مبدأ الصوت الواحد الذي أشبعناه ذماً، تجعل من التسويق السياسي الباهت أداة من أدوات تحويل الأزمة إلى كارثة. فما جدوى هذا التسويق بعدما رفضت هذه الصيغة من الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وقادة الرأي والخبراء والعشائر والحراك الشعبي ومعظم رجال الدولة المحترمين؛ فمن تبقى؟ ولم يخرج رأس الصوت الواحد في كل مرة؟ وما سر السحر الذي يمتلكه؟يؤدي التسويق السياسي المكثف لأي فكرة عتيقة أو حتى مبتكرة عبر وسائل الإعلام وأدوات الاتصال والتعبئة التي تدار من قبل السلطة والمجتمع بدون رصيد حقيقي، إما إلى حالة من رفع مستوى التوقعات إلى مستوى الفوضى، أو حالة من الخوف والإحجام إلى مستوى الانسحاب من الحياة العامة. والمشكلة تكمن حينما يتحول المجتمع إلى مختبر لقياس شعبية الأفكار، وفي كل مرة مطلوب منه أن يكفر بما أنتج من قناعات سابقة بعد أن تصبح رجسا من عمل الشيطان.ويتضح ذلك جليا كلما وضعت مضامين حملات التسويق السياسي على المحك، أو إذا ما جد الجد، واختبرت الوقائع مدى جدية تلك المضامين، الأمر الذي ولد قناعة لدى العامة بعبثية هذه الأنشطة وعدمية السياسة من خلفها، إذا ما أضيف إلى ذلك أن هذا التسويق يستثمر في الفشل ويعيد إنتاجه، ما يكشف عدم قدرة النخب السياسية على تأصيل أي فكرة مبتكرة، وعدم ربطها بالعمق المجتمعي وشروطه الثقافية والسياسية قبل طرحها.هذا الواقع يفسر بعض جوانب العلاقة بين الإعلاميين والسياسيين، ودورها في تردي الحياة السياسية في هذه المرحلة. وبالتالي، يبرز السؤال الأكثر أهمية: من يحدد ما يفكر فيه الناس باعتباره قضايا الساعة؟ وبكلمات أخرى، كيف يتم تعليب الرأي العام في قوالب جاهزة؟تسويق الفشل السياسي أخطر من تسويق الفشل الاقتصادي، لأنه يوفر الشرعية والغطاء للفشل الاقتصادي، ولسرقة مستقبل الناس، باللعب بعواطفهم وأحلامهم البسيطة، وبالتالي يراكم الأزمات ويخلق الكوارث.خلال العقدين الماضيين، شكل قانون الانتخاب إحدى المسائل السياسية الكبرى التي أنهكت أعصاب النخب السياسية المطالبة به، فيما لم تدرك النخب الرسمية أن أحد مصادر إنهاك أعصاب الدولة يأتي من تراجع أدوات الدولة في خلق التوافق العام. إن الدولة بأدواتها العميقة في المؤسسات والمجتمع هي القادرة على خلق التوافق الوطني، والمشكلة تكمن حينما تقفز الدولة على التوافق وتتجاوزه، والكارثة تحدث حينما تحاول بتلك الأدوات اصطناع التوافق حول الفشل وتسوقه للناس.إعادة تسويق الفشل يعيد إنتاج الأزمات المركبة بصيغ أكثر تعقيدا؛ أي تسويق الوصفة التي حرمت البلاد من أن يكون قانون الانتخاب أداة دمج وأداة قوية لاستكمال بناء الدولة. وقد حان الوقت إلى أن تكون الانتخابات وأجندة الإصلاح السياسي سياسة داخلية، بما يخدم حماية قوة الدولة والمؤسسات الدستورية؛ وهذا سيبقى صعب المنال إذا ما بقيت الذهنية الرسمية مربوطة بفكرة إعادة تسويق الفشل في كل مرة. ( الغد )