جمهورية الميدان

تجاوزت رمزية ميدان التحرير في وسط القاهرة فكرة الثورة والخلاص من النظام السابق، ومن مكان لا تكمل الثورة فصولها ولا تحقق أهدافها إلا فيه، إلى مكان للتعبير عن كافة أشكال الرفض السياسي والاجتماعي. لذا، تقاس في هذا الوقت العصيب حرارة رضا الناس عن أحلام الديمقراطية وكوابيسها التي تأتي بها الصناديق بما يحدث في الميدان، والتي يلخصها السؤال اليومي القلق: ما الأخبار في الميدان؟
في الوقت الذي تتشكل فيه الجمعية التأسيسية للدستور، وفي ضوء قرار المحكمة الدستورية بشأن دستورية قانون العزل السياسي، تبقى كل العيون تتجه إلى الميدان بالتزامن مع أخبار تدهور صحة الرئيس السابق، واحتمال رحيله بين ساعة وأخرى. وتدب حركة الساعة مسرعة نحو موعد الجولة الثانية للانتخابات التي ستحسم شكل الديمقراطية المصرية وهويتها، وستنال بشكل أو بآخر اتجاهات السياسة الإقليمية لعقد من الزمن على أقل تقدير.
نتيجة الانتخابات للمصريين في الخارج ذهبت لصالح مرشح الإخوان المسلمين. والملاحظة المهمة في انتخابات المغتربين هي التراجع الهائل في نسب التصويت، ما قد يقدم مؤشرا أوليا مهما على الجو العام الذي سينتخب فيه الرئيس المصري يوم السبت القادم، وسط عشرات السيناريوهات والمقترحات التي تحاول التقدم بأفكار ابتكارية لإخراج مصر من عنق الأزمة المعقدة، وآخرها فكرة محمد البرادعي بالدخول في مرحلة انتقالية جديدة يكلف فيها الرئيس المنتخب بقيادة مرحلة انتقالية أخرى لمدة عام، ويتم خلالها وضع دستور جديد وحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، لتنتهي هذه الفترة برئيس جديد. وما إن طرحت الفكرة حتى سارعت القوتان المتنافستان على الرئاسة إلى رفضها مباشرة، بينما رحبت بهذه الفكرة معظم القوى السياسية، وعلى رأسها ما يعرف بقوى شباب الثورة.
لسان حال الأغلبية الحائرة أن صدمة الفشل في الدرس الأول للديمقراطية ستعيد الجمهورية الجديدة إلى الميدان من جديد. وجميع المرشحين الذين نافسوا في الجولة الأولى رفضوا النتيجة ودعوا إلى تشكيل مجلس رئاسي، باستثناء عمرو موسى ومحمد سليم العوا اللذين أقرا بالنتيجة، بينما الذين نزلوا بمئات الآلاف إلى ميدان التحرير يؤكدون فكرة مركزية، تنسحب على معظم المجتمعات العربية، وتتلخص في ضعف العمق الاجتماعي للديمقراطية، أي إن خبرة العمل الديمقراطي وقيمه لم يصلا بعد لأعرق المجتمعات العربية في بناء الدولة الحديثة.
سيبقى الرهان على ميدان التحرير قائما، وبقوة أكثر من أي وقت مضى، فيما يزداد الإدراك لمدى حساسية الموقف، والمستوى المعقد الذي تم الوصول إليه عبر صناديق الانتخاب. فوصول العسكر مرة خامسة إلى السلطة يعني ضرب الثورة في الصميم، ولا أحد يضمن اليوم التالي؛ ووصول الإخوان يعني تكريس الاستحواذ والاحتكار السياسيين في يد تيار واحد، سيسيطر في نهاية اليوم على كافة سلطات الدولة ومؤسساتها في مرحلة في غاية التعقيد. ويزداد الخطر بالفرز الديني والطائفي الذي يتنامى بسرعة، ويأخذ أشكالا مؤسسية وآخرها طريقة تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور على أساس جماعة الدولة الدينية وجماعة الدولة المدنية، وهو أخطر ما يمكن ان تذهب باتجاهه ديمقراطية عمياء.
من المفترض ان يتعايش الناس وقواهم السياسية مع نتائج الديمقراطية مهما كانت. والمشكلة كما هو الحال في المشهد الديمقراطي المصري، أننا نرى فريقا يعتقد ان الديمقراطية وحدها غير كافية، ويصر على العودة إلى الشارع وإعلان جمهورية ميدان التحرير؛ أي البحث عن الشرعية الثورية. وفي الحالتين الثمن صعب، ولكن الثمن الأصعب هو الانقلاب على الديمقراطية. ( الغد )