هل خرج الوضع السوري عن السيطرة؟

تختلف الإجابة عن السؤال أعلاه باختلاف المواقف المسبقة، والتقديرات المتفاوتة، والآراء الرغبية لدى سائر المخاطبين بوضع بلد محوري في المشرق العربي، اجتازت انتفاضة شعبه السلمية أطواراً متعاقبة من العنف، على مدى خمسة عشر شهراً طافحة بالدماء وغاصة بالمتغيرات التي جرفت سورية على نحو تدريجي حثيث نحو نقطة استعصاء لا مخرج لها، حتى لا نقول نحو حافة هاوية سحيقة لا قرار لها.وتقضي المقاربة الموضوعية للمشهد الراهن بالكف عن وصف ما يجري على امتداد الرقعة الجغرافية السورية بأنه مجرد أزمة، بعد أن تخطت المواجهات نطاق قدرة النظام على احتواء وضع يواصل الإفلات من بين الأيدي يوما بعد يوم، وبعد أن بلغ الموقف عتبة انفجار لا يختلف اثنان على فداحة مضاعفاته الداخلية والإقليمية، الأمر الذي تتواضع معه كل التشخيصات التي تقل عن نعته كزلزال متسلسل الارتدادات.ولعل أنجع القراءات لمجمل عناصر الحالة السائدة الآن تستدعي التوقف مليا عند اتساع ظاهرة الانشقاقات عن الجيش، وتزايد أعداد المتطوعين من الثوار مختلفي الدوافع والخلفيات، والتحسن الملموس في قدرات هؤلاء على استخدام أنظمة الاتصال، وارتفاع نوعية أسلحتهم، وتعاظم الإمدادات المادية لهم، جنباً إلى جنب مع مظاهر الإنهاك والتخبط والتشتت وانخفاض المعنويات التي داهمت قيادة جيش لم تعد تثق إلا بنخبة جيدة الإعداد والتسليح، تود الحفاظ عليها كاحتياطي أخير لها في المعركة المحتملة على أعتاب الشام.في غضون هذه التطورات التي فرضت نفسها على النظام المأزوم سياسياً والمحاصر اقتصادياً، نشأت بؤر تمرد عسكري بدت عصية على الاقتلاع، ثم راحت هذه البؤر التي تم الاستخفاف بها تتفشى في محيطها الجغرافي كبقعة الزيت، أو قل كقلاع حصينة تستقطب إليها المزيد من الأفراد والجماعات، وذلك على نحو ما بدت عليه حمص أول الأمر، ودفعت في سبيل ذلك آلاف الضحايا والشهداء، قبل أن تعم هذه الظاهرة وتنتشر في العديد من المدن ومعظم الأرياف.على أن النقلة الأشد أهمية في هذا المسار الطويل من التطورات، تمثلت في نشوء هذه البؤر وتموضعها على أبواب العاصمة، من الزبداني في الغوطة الغربية إلى دوما وجوارها في الغوطة الشرقية، حيث عجزت الآلة العسكرية المتفوقة بقوة النار عن إنهاء هذه الملاذات غير الآمنة للثوار، بدليل اجتياح دوما لأكثر من مئة مرة دون أن ينال البطش الذي لا سقف له من عزيمة نفر من الرجال الذين كثيرا ما نقلوا مواجهاتهم المباغتة إلى ساحة العباسيين وغيرها من الأحياء ومناطق الجوار.ما نود قوله في معرض الإجابة عن سؤال خروج الوضع السوري عن السيطرة، هو أن وزن العنصر الذاتي بات في الآونة الأخيرة أرجح من كل العوامل الخارجية المؤثرة في مجرى التطورات، بما ذلك التدخل العسكري الخارجي، وأن مرور الوقت بات يلعب لصالح الطرف الذي يواصل الإمساك أكثر فأكثر بدفة الأحداث، ويقرر على نحو تدريجي متزايد مسار التطورات التي بلغت نقطة اللاعودة منذ عدة أشهر سابقة، وأدخلت متغيراً صار يحسب له الحساب، وتعقد عليه الرهانات، وليس أدل على ذلك من تغير الأوضاع على الأرض.وأحسب أن أرجحية ما ذهبنا إليه من قراءة تنهل من فيض المتغيرات الداخلية أكثر مما تستطلع المبادرات والتدخلات الخارجية المحتملة، ماثلة الآن فيما يجري تداوله من خطط انتقالية، وسيناريوهات يمنية، وفوق ذلك من أحاديث متواترة عن ضرورات استباق فوضى انهيار النظام، والسيطرة على أسلحته الكيماوية قبل فوات الأوان، ناهيك عن اقتصار المعالجات الدولية المطروحة على مرحلة ما بعد الأسد، وفق ما راحت تومئ إليه موسكو التي ربما أدركت بعد طول عناد أن النظام الذي تدعمه قد انتهت صلاحيته، وأن الوضع خرج عن سيطرة العائلة المافياوية، وأن سيطرة النظام المتهاوي تقف عند حدود دباباته فقط.
( الغد )