تأييد صهيوني لمقاطعة المستوطنات!

يصعب تخيل نشر صحيفة غربية مقالا حاداً ضد إسرائيل والإسرائيليين كالذي نشرته "الإندبندنت" البريطانية الخميس الماضي، لولا أنّ كاتبه هو أفراهام بورغ، رئيس الكنيسيت بين العامين 1999 و2003، والرئيس السابق للوكالة اليهودية، والمنظمة الصهيونية العالمية، اللتين تمثلان المؤسس والقائد الحقيقي للحركة الصهيونية، وكيانها في فلسطين. جاء في المقال الذي نشرته الصحيفة، أنّ "عيون شعب إسرائيل عمياء، وآذانهم طرشاء، وقادتهم مهزوزون ضعفاء". والمقال تأييدٌ لقرار المملكة المتحدة القيام بإجراءات للتأكد من أنّ البضائع التي تنتجها المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية لا تحمل عبارة "صنع في إسرائيل"، وذلك ليتمكن المستهلك من مقاطعتها إن شاء، وحتى لا تحصل على التسهيلات والإعفاءات التي تحصل عليها البضائع الإسرائيلية في دول الاتحاد الأوروبي. وقد أعلنت الدنمارك مؤخرا إجراءً شبيهاً، وذلك تطبيقاً لسياسة أوروبية رسمية بهذا الخصوص.أطروحة بورغ، الذي يرفض دخول الضفة الغربية حتى لمناسبة عائلية، هي أنّ هذه المقاطعة في مصلحة إسرائيل، لأنّها تعيد رسم "الخط الأخضر"، أو خط 5 حزيران 1967، الذي يفصل بين فلسطين 1948 والضفة الغربية وقطاع غزة. وهو ينطلق من الدفاع عن حل الدولتين، وعن إسرائيل ديمقراطية علمانية، بينما "كل شيء خارج الخط غير ديمقراطي، وغير شرعي، وغير طبيعي"، أو كما يقول "ليس لنا". ويطالب المجتمعات المتحضرة بالتدخل، ويكشف أنّ المدارس في إسرائيل ممنوعة من الحديث عن هذا الخط، وأنّه مُسح من المناهج والخرائط. ويصل بورغ حدّ نعت المستوطنين، وحلفائهم بمن فيهم بنيامين نتنياهو، بأنهّم "الأعداء الحقيقيون لإسرائيل"، الذين يولّدون باستيطانهم تعصبا وأصولية، ويتناقضون مع الديمقراطية.لمثل هذا المقال جانبان تجدر مناقشتهما، أولهما أنّ بورغ ربما يعتبر حالة هامشية في المجتمع الإسرائيلي، أو يعبّر عن أقلية الأقلية. فقد حدَثت عنده تحولات فكرية جعلته يعتزل العمل السياسي تقريبا منذ أعوام، ويتفرغ للكتابة. والنخب الصهيونية العلمانية التقليدية، حتى المتعصبة، عموما تنقرض، ليحل محلها نخب صهيونية متدينة أو طائفية (تعبر عن جماعات يهودية فرعية)، وأخرى علمانية متحالفة معها لأغراض شخصية، وفي سبيل التوسع الاستيطاني. ولكن بورغ ربما يعبر عن اتجاه صهيوني يضيق ذرعاً بالسياسات الحالية في إسرائيل، ومن هؤلاء اللوبي الإسرائيلي الجديد في الولايات المتحدة "جيه ستريت" الذي يرفض فكرة تأييد حكومة إسرائيل مهما كانت قراراتها، ويدعو لسياسة أميركية مختلفة لفرض السلام. ولكن هذه المجموعات على قوتها، تبقى أقلية.الأمر الثاني، هو طبيعة المقاطعة التي يجب الدعوة إليها؛ وهذا الموضوع جدلي داخل الحركة العالمية الداعية للمقاطعة. وقد تحدثتُ لناشطين أميركيين يدعون للمقاطعة، يرون صعوبة الدعوة إلى مقاطعة شاملة لكل إسرائيل، وأن الرأي العام الأميركي لن يتقبل هذا. في المقابل، يرى ناشطون آخرون أنّ كل ما هو إسرائيلي يجب مُقاطعته. وعمليا، تبني حركات المقاومة المدنية الناشئة أطروحتها على "محاربة الأبارتهايد" أو إجراءات الفصل العنصري التي تمارسها إسرائيل ضد العرب داخل فلسطين المحتلة العام 1948 لتبرير المقاطعة الشاملة، وإن كان الناشطون يجدون صعوبة ميدانيا في الدعوة لذلك في بعض الدول.ينطوي خطاب المقاطعة على ثغرتين كبيرتين: أولاهما، ضرورة ربط المقاطعة بالظلم التاريخي المرتبط بقيام إسرائيل، ومن ذلك موضوع اللاجئين. فهذا الموضوع يبدو "تابو" يخشى بعض أكثر مناصري الفلسطينيين قوة إثارته. والأصل أن يصبح موضوع اللاجئين وعودتهم أول المطالب الفلسطينية، خصوصاً مع تزايد تجلي عبثية ورفض الصهاينة فكرة حل الدولتين. والقضية الفلسطينية لا يحلها الانسحاب من الضفة الغربية، أو حتى تفكيك المستوطنات وقيام دولة فلسطينية على جزء من فلسطين، فالحقوق في فلسطين التاريخية وحق العودة لا يجب أن تصبح أموراً هجينة.الثغرة الثانية، هي أنّ مقاطعة البضائع الإسرائيلية في الضفة الغربية وغزة تفقد زخمها، والقيادات الفلسطينية المختلفة، والفصائل الرئيسة، تتجاهل فكرة ضرورة إنهاء عمل عشرات آلاف الفلسطينيين في المستوطنات، وتفشل مثلا في وضع خطة مدعومة عربيا أو عالميا لوقف هذه المهزلة، حيث يعمل الفلسطيني أجيرا في أرضه المصادرة، ولدى محتلّه، خشية التبعات المالية لمثل هذا القرار، ولعجزهم عن إيجاد أعمال بديلة لهم.( الغد )