لماذا الثقافة والفن؟

صدمت بملاحظات كثيرة من القراء والأصدقاء حول مقالة أمس "الإخوان المسلمون وسؤال الثقافة والفنون"، ومفاد هذه الملاحظات الاستخفاف بأهمية الثقافة والفن في النهضة والإصلاح، والخلط بين ممارسات وأحوال مرفوضة وبين الفنّ. والأكثر صدمة وفجيعة، عدم القدرة على ملاحظة وإدراك مفهوم الثقافة والفنون، والفكرة "الشائعاتية" عن الثقافة والفن، برغم أنهما معا أحد الأركان الرئيسة الثلاثة المنشئة والمؤسسة للأفكار والتشريعات والمواقف والأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وأسلوب الحياة والسلوك الاجتماعي.
ذلك أن الفكرة الأساسية المنظمة للحياة والدول والمجتمعات والتشريعات.. تقوم على مبادئ رئيسة ثلاثة: الحق والخير والجمال. الحق، بمعنى التمييز بين الخطأ والصواب أو العدل والظلم؛ والخير، بمعنى التمييز بين الضار والمفيد (ليس عكس الشرّ)؛ والجمال، بمعنى التمييز بين القبيح والحسن. فالجمال الذي تعبر عنه الثقافة والفنون هو ما يعين الدول والأفراد والمؤسسات والمجتمعات على الارتقاء بالأفكار والسلع والمنتجات، وبغير هذا الإدراك لا يمكن أن ينشأ تقدم أو إصلاح، ولا أن تتطور أفكار وسلع ومنتجات، ولا أن ترتقي تصوراتنا لحياتنا واحتياجاتنا الأساسية من الطعام واللباس والعمارة. فالجمال ببساطة أداتنا في معرفة ما نحب وما يجب أن نكون عليه، والفرق بين الواقع والمطلوب، ودليل السعي الدائم نحو ما هو أفضل، ذلك أن ثمة ما هو أفضل دائما، ولا يمكن إدراكه بغير "الجمال".
هذا التوافق هو الذي يطور الحياة السياسية والاجتماعية، ويحمي المنجزات الاقتصادية ويفعلها، ويساعد في إنشاء الموارد وتطويرها على النحو الذي يحقق الكفاية في الاحتياجات الأساسية والرضا والاستقرار. فالثقافة والفنون ليست مجرد زينة غير ضارة، ولا مجرد إضافة ترفيه إلى حياة الناس، ولكنها متطلب ضروري ومدخل حتمي للتقدم وتحسين حياة الناس؛ فبغير ثقافة الجمال ورؤيته وملكاته ومواهبه التي تلاحظ القبيح والحسن وتتمسك بحاكمية المنطق على الأعمال والحياة، لا تنشأ العمارة على النحو الذي يحقق راحة الناس واحتياجاتهم، واللباس على النحو الذي يحب أن يرى الناس أنفسهم عليه أو يراهم الآخرون، وكذا الطعام والطرق والنقل، ثم تصميم السلع والمنتجات والخدمات جميعها، إلى الحديث والسلوك والعلاقات والانتخابات والتشريعات والقرارات والسياسات.. إنها جميعها تتقدم نحو الصواب والتقدم والأفضل بناءً على ما يملك الناس من جمال ومنطق، وهما (الجمال والمنطق) محصلة الثقافة المنظمة لحياة الناس والمحيطة بها، وبغيرهما لا يقدرون على اختيار الأفضل والمقارنة بين الأفكار والسلع والأعمال، ولا معرفة ما يريدون وما يحتاجون إليه، وما يريدون أن يكونوا، وكيف يراهم الآخرون وكيف يرون أنفسهم.
فالمجتمعات والأفراد والأعمال والمنجزات والسلع والأفكار والأذواق والخدمات والأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيوت والملابس والطرق والأحياء والمدن والأمكنة، تتحدد بالقدرة على تصميمها وإدراك الحالة التي يجب أن تكون عليها. وهي نهاية تقررها القدرة على الرؤية والخيال، أي الجمال؛ فحياتنا إذن تكون على النحو الذي نتخيله ونراه، وهي في ذلك في تقدمها وتخلفها بمقدار قدرتنا الجمالية والرؤيوية. حتى الموارد المادية والكنوز التي لدينا تكون كذلك فقط عندما ندرك ذلك، وبغير ذلك فإنها لا تبدو مختلفة عما سواها من الأشياء عديمة الأهمية والقيمة. ( الغد )