عودة إلى القَدَرية

حين سئل المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما عن الثورات العربية، قال: "إن إيجاد المؤسسات الديمقراطية يستغرق وقتا". والحقيقة أنه لم تكتمل الثورة المصرية، لأن "الدولة العميقة" ما تزال قائمة ومتغلغلة. "المجلس العسكري" تلاعب بالجميع، ومن يستمع إلى المصريين اليوم يرى أن نبرة التحدي والإرادة والشموخ الوطني والثقة التي سادت قبل أشهر تتحول اليوم إلى ما يشبه "القَدَرية"، والشعور بالإحباط واللاجدوى من السياسة؛ إذ عادت نغمة "مفيش فايدة" تأخذ مكانها بعد أن كانت حلّت بدلا منها في "ميدان التحرير" شعارات كثيرة تُختزل في مبدأ استجابة القدَر لما تريده الشعوب.
أسقط المصريون الرئيس حسني مبارك كحاكم فرد وكرأس نظام، لكنّ "الدولة العميقة" بقيت قائمة في الثمانية عشر عضوا في "المجلس العسكري" الحاكم، وما يمثله من مصالح اجتماعية واقتصادية واسعة بين فئات الشعب المصري في القضاء والأمن والخارجية وغيرها. وهذه هي من نفّذت "الانقلاب الناعم" عبر قرارات "المجلس العسكري" الأخيرة بشأن صلاحيات الرئيس، وكتابة الدستور، وحل مجلس الشعب.
يجب عدم الاستعجال والتسرّع في إطلاق الأحكام، أو ممارسة دور الحكماء، لكن ما يلوح في الأفق أنّ الثورة لم تكتمل لأنّ النخبة المصرية التي كانت مسؤولة عما آلت إليه الأوضاع زمن مبارك، هي اليوم، وإنْ تغيرت لافتاتها وأفكارها، مسؤولة عن الأوضاع الحالية.
كان هناك منذ البداية من قبل مؤيدي الثورة المصرية، في الداخل والخارج، صوتان: صوت متفائل بأن الأمور ستنصلح قريبا إلى غير رجعة لعهد الظلم والاستبداد؛ وصوت آخر يدعو إلى التأني ومواجهة كمّ المصائب والملفات المعقدة التي تتطلب المعالجة والمراجعة وإعادة التأسيس، لكي تستقبل مصر قدرها الديمقراطي الحر. وعلى الرغم من أن دول وسط أوروبا وشرقها ساعة انهيار الاتحاد السوفيتي كانت تعاني تخلفا اقتصاديا واستبدادا سياسيا في ظل تبعيتها للمنظومة الشيوعية، فإن ذلك لم يسلبها صفة كونها دولا حديثة، قابلة لاستقبال الانتقالة الديمقراطية ومأسسة التغيير بشكل أيسر مما هو عليه الحال في العالم العربي. لا نزعم أو ندّعي الحكمة بأثر رجعي، لكن كنّا نقول دائما إنّ الاستبداد والفساد منظومتان وليستا فردين، وهاتان المنظومتان أفرغتا منذ عقود دولنا ومجتمعاتنا من عناصر قوتها، ودعائم نهضتها، ولهذا تبدو صعوبة مخاض الإصلاح والتغيير في دول منطقتنا.
استعجال قطف الثمار والاستفراد بالساحة وقفا خلف أخطاء الإخوان وخلف تراجع حماسة الناس الذين صاروا نهبا لدعاية الفلول وبرنامجهم المضاد. يجب الاعتراف بأن مثل هذه العوامل وغيرها جعلت المولود المصري خداجا. كان وائل غنيم أحد أبطال وشباب ثورة يناير يخاطب الناس في ميدان التحرير: "هننتصر لأنّ معندناش أجندات.. لأننا مش بنفهم في السياسة والموازنات والتفاوضات وألعابها الحقيرة". قلنا ساعتها إن ذلك رومانسية سياسية وطهر وطني لا يستقيمان مع عقلية بناء الأوطان والدول، وما يتطلبه ذلك من ذكاء سياسي وصبر وطول نفَس لتحقيق أفضل النتائج في المفاوضات والموازنات وبلورة أجندات تستهدف تحقيق كرامة المواطن بتأكيد حريته وتوفير العيش الكريم.
إذن، بدلا من القَدَرية، ينبغي أن نلوم أنفسنا حين كنّا نقول إن "المجلس العسكري" لا يفهم في السياسة، لنكتشف اليوم دهاءه السياسي. ونتساءل: هل ممن توقعوا فوز عمرو موسى من الإعلاميين المصريين من اعتذر للشعب على قراءته الخطأ وبُعده عما يفكر فيه الناس العاديون؟!
في كل الأحوال، مصر اليوم أحسن حالا بالتأكيد مما كانت عليه زمن مبارك، ونصف ثورة ديمقراطية خير من الاستبداد، والمهمة أمام المصريين ( وغيرهم ليس أحسن حالا) أن يتجنبوا في المدى المتوسط الحل اليمني كما عبّر عنه المحلل اللبناني حازم صاغية بقوله: استبداد من غير مستبد، وتكيّف جديد مع الواقع وإملاءاته، يعيد الاعتبار لشعور اللاجدوى العريض.( الغد )