قانون الانتخابات .. الجوهر والعباءة الجديدة

من يتابع موضوع الإصلاح السياسي في بلدنا ،يشعر أحياناً بالأسى والضيق لإصرار البعض على إفشال أو إبطاء عملية الإصلاح وإيقاف عجلتها، باعتبار انه لم يعد لها لزوم، أو أن الشعب و الإصلاحيين والشباب والحراكات قد ملوا الوقوف في الميادين والطرقات، وان الناس قد ضجروا من تعطيل أعمالهم، وليس بالإمكان أحسن مما كان . وهذا في حقيقة الأمر وهم كبير، وخداع للنفس وللوطن وللدولة. فالتغيير والإصلاح الحقيقي العميق، وليس الشعارات، لم يعد ترفاً، وإنما شرطاً من شروط البقاء والاستمرار . وهو في نفس الوقت المنصة الوحيدة التي يمكن أن ينطلق منها الوطن بأسره إلى مستقبل أفضل للجميع بدون استثناء . ما يجري في الأقطار العربية من تغيير مصحوب بالفوضى، وتغليب المصالح الفئوية على الوطنية، وغياب الأمن والتعثر والتبعثر، يمكن أن نتجنبه نحن بسهولة، إذا توافقنا على أن لا فائدة من التأخير والتأجيل، والتسويف والترحيل من جهة،و أن لا فائدة أيضا من المعارضة دون الاستعداد للتوافق في منتصف الطريق من جهة أخرى. فالعصر هو عصر المشاركة الشعبية المنظمة من خلال المؤسسات السياسية والمدنية، ومن خلال بناء ديمقراطي سليم و متين .كما أن القشور الخارجية للديمقراطية لا تفيد، والديكورات الحداثية سرعان ما تنكشف . العصر هو عصر إرادة المجتمع، وآلة الدولة سريعة الدوران عالية الكلفة: فيوم الطاقة (10) ملايين دينار ويوم الكهرباء (4) ملايين دينار ويوم النقل (4) ملايين دينار ويوم التعليم (3.5) مليون دينار ويوم الرواتب (12) مليون دينار ويوم الفساد (3.5) مليون دينار، وهكذا.
وإذا كان المجتمع الأردني ينادي منذ سنوات بضرورة تغيير قانون الصوت الواحد الذي لم يعد أحداً بحاجة إلى تبيان سيئاته، وإذا كانت الأحزاب والقوى السياسية والمفكرون والإصلاحيون والمثقفون ولجنة الحوار الوطني يجمعون على ضرورة الانتقال إلى حالة أصدق تمثيلاً للشعب وأكثر ملاءمة لمواجهة مسؤوليات المراقبة والتشريع ، ويجمعون تقريباً على ضرورة التخلص من قانون الصوت الواحد ، فهل هناك مبرر أو عذر لمجلس النواب لإعادة إنتاج هذا القانون؟ حتى ولو كان مجملا بعض الشيء ويلبس عباءة جديدة ،دون تغيير الجوهر؟ ألا وهو تقسيم البلاد إلى دوائر صغيرة بعيدة عن ترابطات وتقاطعات و التزامات الوطن بأسره.
وخلال اللقاءات التي أجراها الملك عبدا لله الثاني مع النواب كان التأكيد وفي أكثر من مناسبة، أن القانون الجديد سيبتعد عن الصوت الواحد، ليكون أكثر عدالة في التمثيل، وليكون أكثر تعميقاً لمفهوم الوطن والمواطنة منه لمفهوم الشخص والمنطقة الضيقة. و بالتالي سيخرج النيابة من كونها مشروعاً شخصياً محصور المساحة والاهتمامات، لتصبح مشروعاً وطنياً بكل الخلفية السياسية المطلوبة.
بعد كل هذا وذاك، تأتي اللجنة القانونية في مجلس النواب لتقدم مشروعها بالإبقاء على الصوت الواحد، و يذهب المجلس إلى إقرار القانون كما جاء، ولكن مع إضافات مظهرية بسيطة، هي :قائمة صغيرة (12%) للوطن،و إلغاء الدوائر الوهمية، والمقاعد التعويضية التي أقحمت دون مبرر و في غفلة من الناس.هذا إضافة إلى جعل تقسيم الدوائر جزءا من القانون، وهو أمر جيد. أن العلة ليست في أن يكون للناخب صوت أو اثنين أو حتى ثلاثة. . العلة أين تذهب هذه الأصوات ؟ وكيف توزع ؟ وماذا تنتج ؟ وماذا تحدث من تفتيت للمجتمع؟ أو عكس ذلك. وكأن مجلس النواب يخاطب الشعب بنوع من” التذاكي” أو” الفهلوة” فيقول: انتم لا تريدون الصوت الواحد؟ فليكن .نحن نجعله “ قانون الصوتين”. و نحن نقول :رغم وجود صوتين في القانون الجديد إلا أن 77% من تركيبة المجلس ستكون كما كان في القانون السابق. فهل هذا تجديد جوهري من المجلس الموقر ؟ أين المسؤولية الوطنية ؟؟ هل يمكن أن يوضع مستقبل البلاد في كفة والمصالح الشخصية أو المناطقية المحدودة، حتى ولو كانت مكتسبة ، في كفة أخرى؟ هل يعقل أن يتمثل الوطن بكامله بعدد قليل من النواب لا يزيدون عن 17 نائباً أي بنسبة (12%) في حين تتمثل المناطق بتقسيماتها التي تعب منها المجتمع بالجزء الأكبر من النواب وبنسبــة (77% )؟ النيابة ليست تجزئة أو وجاهة وليست مكاسب وإنما دور وطني تاريخي ومسؤولية وخبرة وتجربة أكثر ترابطاً واستيعاباً للقضايا الكلية للوطن.
إن التشريع ومراقبة الحكومة يتطلب النواب الأكثر كفاءة وحنكة بل وعلماً وممارسة في المجال السياسي والاقتصادي والتشريعي على المستوى الوطني ومن خلال المؤسسات المعروفة للعمل . لقد شهدت الفترة الماضية أخطاء كثيرة، وفسادا متكررا ،وغيابا للتوازن و الاستقلال بين السلطات، و زواجا غير شرعي بين السياسة والمال، تتابعت سنة بعد سنة ومجلساً بعد مجلس.. لماذا ؟ و كيف كانت تمر هذه الفعال أمام عيون مجالس النواب المتعاقبة؟ الإجابة واضحة: لأن “الإدارات” الحكومية و”المصالح التكسبية” كانت قادرة إلى حد كبير على توجيه المجالس التي ينتجها قانون الصوت الواحد كما تريد، توجيهها من خلال التفاهم الفردي مع النواب بصفتهم الشخصية. فهل يراد لهذه الحالة أن تستمر؟ وهل سوف يتغير الحال إذا أصبحت إمكانية التفاهم متاحة مع( 77%) فقط بدلا من (100%)؟
كيف يمكن للبرلمان أن يصبح فاعلاً ومراقباً لأعمال الحكومة دون أن يكون النائب ممثلاً للوطن على أوسع نطاق ممكن ؟ ودون أن تكون هناك منظمات أو مجموعات أو أحزاب تراقب أعمال النائب؟ وتراقب أين وكيف تتحرك مواقفه . وكيف يمكن الانتقال السريع إلى تشكيل الحكومة البرلمانية التي ينتظرها الشعب بكامله ( و التي سبق أن تشكلت قبل (56) سنة ) إذا كان 77% من النواب يمثلون دوائرهم الفردية ؟
لقد أن الأوان أن ندرك جميعاً أن الدولة القوية المنيعة لا تقوم إلا على مؤسسات وبرلمانات وأحزاب قوية ومنيعة. وأن التحكم في البرلمان وتقليص مساحة التمثيل كل ذلك لا يفيد أحداً . والأخطر من كل ذلك انه يؤدي إلى تفتيت المجتمع. فالعصر هو غير العصر والزمان غير الزمان والمستقبل أكثر تعقيداً مما يبدو على السطح. إن البرلمان القوي المستقل هو سند للدولة حتى لو اختلف مع الحكومة.
إن الدولة الأردنية مطلوب منها ولها أن تتماسك و تتقدم وتتجاوز الأزمات بقوة، من خلال قوانين قاطعة ومانعة تحقق الشراكة الفعلية وتضمن دور المواطن من خلال ممثلين حقيقيين وتعزز دور الأحزاب ذات البرامج في المشاركة في السلطة. فعجلة التاريخ سريعة الدوران وما يمكن إصلاحه اليوم قد يصبح باهظ الكلفة غداً.
كان على البرلمان الذي أنجز مشروع القانون خلال فترة قياسية (3) أيام وبحضور (57) نائباً فقط، أن يتجاوب مع تطلعات الشعب وأن يقر قانون انتخاب عصري أركانه ثلاثة : الأول : صوت للواء وصوت للمحافظة وصوت للوطن . الثاني : تخصيص (70) مقعداًً للقائمة الوطنية من ضمنها( 35) مقعدا للأحزاب و (36) مقعدا لقائمة المحافظات من بينها (20) مقعداً للمرأة . الثالث : أن تتناسب أعداد المقاعد مع الديموغرافيا والجغرافيا أي مقعد لكل لواء ومقعد لكل (100) ألف من السكان. ( الدستور )