مرسي رئيساً .. الصورة بعيون مختلف العواصم واللاعبين

بدا أول رئيس مصري منتخب، تصالحياً في خطابه الأول، ومع الجميع، داخل مصر وخارجها...فقد حرص الرجل على تجنب التصعيد وتصفية الحساب وتفادي لغة التخوين والتكفير...وجّه التحية للمؤسسات العسكرية والأمنية والشرطية المصرية، التي طالما انتقد أداءها وحَمَل على قيادتها...وحرص على توجيه رسائل محبة و”أيدٍ ممدودة” إلى مختلف التيارات السياسية بما فيها قواعد النظام القديم ورجالاته من غير الملطخة أيديهم بدماء الثوار وأموال الشعب...حرص على تبديد شكوك النساء والمسيحيين بالحديث عن المواطنة المتساوية، مصدر الحقوق والواجبات...والأهم، أنه دشّن حديثه بالالتزام بأهداف الثورة حتى النهاية، واضعاً التزاماته وتعهداته التي قطعها على نفسه، مقياساً ومحكاً للحكم عليه والقبول به رئيساً لكل المصريين.
ومثلما كان الرجل تصالحياً مع الداخل، حرص أن يكون تصالحياً كذلك مع الخارج...فهو جدد التزام مصر بكل المعاهدات والمواثيق والالتزامات الدولية، وهنا لا يخطر بالبال سوى اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل، مواصلاً بذلك ما بدأته الجماعة وذراعها السياسي حزب الحرية والعدالة من محاولات لبث الطمأنينة في أوساط العواصم الإقليمية والدولية...متوقفاً أمام دوائر التحرك المصري بدءا بالعالم العربي مرورا بالحقل الإفريقي وصولاً إلى الساحة الدولية، متعهداً استعادة دور مصر ومكانتها واحترامها، مشدداً على مفاهيم “المصلحة” و”الندّية” و”النفع المتبادل” وعدم التدخل وصون السيادة، بوصفها محددات وضوابط لسياسة مصر الخارجية في المرحلة المقبلة.
الخطاب الذي أعقب استقالة مرسي من عضوية جماعة الإخوان وحزبها السياسي، ليكون “على مسافة واحدة من جميع المصريين”، أثار ارتياحاً في مختلف الأوساط المصرية والإقليمية والدولية وإن بتفاوت وحذر...على أنه “فاتحة” موفقة لعهد جديد...قوى الثورة التي دعمت مرسي في الوصول إلى سدة الرئاسة، قرر بعضها الانتقال إلى المعارضة (6 أبريل) وهذا تكتيك جدير بالاحترام، ويعبر عن درجة عالية من النضج والقدرة على تحديد أولويات كل مرحلة، وبعض قوى الثورة الأخرى، آثر التريث لرؤية الأقوال وقد تحوّلت إلى أفعال، وهذا أيضاً موقف يسجل لهذه القوى لا عليها، فلم يعد في الوقت متسع للركون إلى الوعود والتعهدات اللفظية، فيما المطلوب الآن، الانتقال بهذه الأقوال إلى الأفعال.
واشنطن وباريس وعواصم القرار الغربي، رحبت بمرسي وأبدت استعدادها للعمل معه، وهذا أمرٌ مهم وإن كان متوقعاً، ويضع مصر على غير سكة “حماس في غزة” التي طالما حذّر منها “المُتطيرون” تخوفاً وتخويفاً من وصول مرشح الإخوان للسلطة، ومن دون التفات للفوارق والاختلافات بين التجربتين والسياقين...موسكو المشتبكة مع “البديل الإسلامي” على خلفية الأزمتين الليبية والسورية، وبهواجس “شيشانية” غير خافية على أحد، ستتصرف وكأن شيئاً لم يحدث في مصر، لكن أنباء فوز مرسي، لم تطرب آذان سيد الكرملين بكل تأكيد...إيران رحبت على أمل فتح علاقات جديدة، وتركيا ستجد لنفسها صديقاً في القاهرة، فيما الدوحة احتفلت بفوز مرسي كما لو كان فوزها الخاص...أما السعودية فلا تستطيع تفادي الترحيب وإن بعد حين، على أن خبر فوز الإخوان في مصر، لا يمكن إدراجه في عداد الأخبار السارة للمملكة. إسرائيل (أكثر من غيرها بكل تأكيد) تراقب المشهد المصري عن كثب، لا شك أن “احترام الاتفاقيات والمعاهدات” هو أكثر ما أثار اهتمامها في “خطاب النصر”، لكنها بالتأكيد توقفت طويلاً أمام حديث الرئيس الجديد عن قدرة مصر على الذود عن حياضها وردع أعدائها، وستعمد الدبلوماسية الإسرائيلية دون تأخير، على “اختبار” المدى الذي سيصله الرئيس الجديد في “احترام الاتفاقيات” وليس مستبعداً أن تتقدم تل أبيب بأول طلب إلى مرسي لاستقبال وفد رفيع إسرائيلي المستوى في القاهرة، أو القيام بزيارة للقدس، سنشهد ذلك، وسنشهده قريباً.
دمشق المنشغلة في حرب مع “إخوانها” وعليهم، كانت تفضل رؤية الفريق شفيق على مقعد الرئاسة الأولى في “الشقيقة الكبرى”، فوز مرسي خبر سيء لدمشق و”فأل” أسوأ قد يؤشر لمآلات الصراع في سوريا وعليها...ومن خلف سوريا يقف حلف طويل وعريض، من التيارات والأحزاب التي طالما حذرت من خطورة صعود الإسلام “المتأمرك”.
في الأردن، سيجري التعامل مع نتائج “الانقلاب” الانتخابي في مصر، بوصفها شأناً مصرياً داخلياً، لا شأن للمملكة به، وسيجري الترحيب بروتوكولياً بفوز مرسي، لكن “الوعي واللاوعي السياسيين” سيجدان صعوبة في “هضم المسألة”، والحال ذاته ينطبق على مواقف بعض التيارات “القومية واليسارية والليبرالية” وبعض الرموز والجماعات “الإقليمية” التي تنظر لصعود الإسلامي الإخواني، من منظور محلي ضيّق، مثقل بحسابات وهواجس المنابت والأصول، ومشبع بالمخاوف من صعود الإسلام الإخواني في الأردن، بما يمثل، أو بالأحرى، “يُزعَم” بأنه يمثل.
حماس (بخلاف السلطة والمنظمة) والتيار الإخواني في المنطقة العربية عموماً، سيستمد جرعة دعم قوية، سياسياً ومعنوياً، من فوز مرسي، وسيشجع وجود رئيس إخواني على رأس هرم السلطة في أكبر دولة عربية، بقية الجماعات على شحذ الهمم وحشد الطاقات لكي تحذو حذو “أم الدنيا” وتعيد إنتاج تجربتها.
لن تكون مهمة الرئيس المصري المنتخب سهلة، فالملفات التي تنتظره تنوء بها الجبال، وتوقعات المصريين بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، أكبر من أن يستطيع “ساحر” على اجتراح “المعجزات” لملاقاتها وتلبيتها...والأهم من كل هذا وذاك، أن الرجل سيجد نفسه غارقاً في بحر من المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية وجهاز النظام القديم و”الدولة العميقة”، وحيداً بعد حل البرلمان، وإحكام “العسكر” قبضتهم على الدستور المؤقت والتشريع والصلاحيات الرئاسية...هنا لن يجد الرئيس الجديد من ضمانة و”شبكة أمان” سوى ميدان التحرير، إن أحسن التعامل مع مكوناته، وحافظ على روحه ونبضه وزخمه.
أما البيئة الإقليمية والدولية التي سيعمل فيها الرئيس الجديد، فالمؤكد أنها لن تساعد على رفع سقف التوقعات، برغم مظاهر الترحيب و”الاستعداد للتعاون” التي تبديها، فالمنطقة تمور بالتغييرات والانقسام والحروب التي تقرع الأبواب، والعالم منشغل بجدول أولويات، لن يكون من بينها توفير فرص عمل لملايين العاطلين عن العامل، أو توفير فرص تعليم أفضل لملايين الطلبة المصريين...قريباً ستتبدد “سكرة” الفوز لتبدأ الأيام الأصعب في تجربة أول رئيس مصري منتخب...وستتوقف على مصير هذه التجربة، مصائر الإسلام السياسي في مصر والمنطقة بمجملها...وللحديث صلة. ( الدستور )