الجلوس مع قاتل أبي

أبدع الكاتب محمد الماغوط في مشهد سؤال الوالد الشهيد في مسرحية «كاسك يا وطن» ولده عن الأحوال، ومثله دريد لحام وهو يمثل مرارة الهزائم كلما أجاب سؤالا إلى أن ينتهي المشهد عند دم الشهداء الذي ذهب هدرا وكيف تحول إلى أرصدة في البنوك.
مناسبة الاستذكار الخبر الذي نقلته مواقع وصحف عن صحيفة هارتس الصهيونية، ومفاده أن مجموعة من الضباط الأردنيين ممن قاتلوا في حرب 67 شاركوا في حفل تأبين للجنود الأردنيين والإسرائيليين في مدينة القدس المحتلة بمناسبة مرور 45 عاما على تلك الحرب.
وبين الخبر تفاصيل الاحتفال وكيف كان دافئا وحميما بين المشاركين، وكيف أن احد الضباط الأردنيين التحق بالجيش بعد استشهاد والده في معارك 56 صعق عندما اكتشف أن الضابط الإسرائيلي الذي يجلس قبالته هو الضابط الذي أمر بالضربة العسكرية التي أودت بحياة والده.
لم يكشف الخبر عن حجم الصعقة وشكلها، غير انه بين استمرار الحفل إلى نهايته، وليس معلوما إن كان نجل الشهيد أدرك انه يجالس قاتل أبيه، وعما يدور في خلد القاتل، وفيما إذا كان اخذ بثأره منه، أو انه تسلم حقه عن دم والده، أم أن إكراميات ذوي الشهداء كافية لذلك بالنسبة له، أو بماذا سيعود إلى أهله ليرويه لهم عن قاتل جدهم ودم الشهداء الذي تحول إلى أرصدة وموائد أيضا.
أي دم ذاك الذي يتحرك عندما يجلس المرء مع قاتل أبيه أو أخيه أو ابنه، فما البال وهو شهيد؟ وهل من حق أي كان أن يتنازل عن دم الشهيد بما من هؤلاء ذووه، أوليس دم الشهداء حق للوطن ما دام روى ترابه؟ وهل انتهت القضية مع اليهود الذين ما زالوا يحتلون ويقتلون ويجرمون ويغتصبون المقدسات، وينتهكون كل شيء، أم أن معاهدة السلام المزعوم وهي مذلة كافية للتبرير؟
من الذي يدفع بأردنيين للجلوس على موائد قتلة أجدادهم وآبائهم وأبنائهم؟ وهل الذي يسمح بذلك مؤتمن على أي دم وأي أمر؟ وهل حقا أن الأردنيين تنازلوا عن حقوقهم ودم شهدائهم، أم أن من يجلس مع قاتل أبيه وحده من تنازل؟
العار يحمله صاحبه فقط، فيخزى ويوصم به، أما الإباء والعزة فيحملها الأحرار والشرفاء الذين على الدرب حتى لا تذهب دماء الشهداء هدرا، وهؤلاء كثر ولن يغير حالهم من يرقصون على موائد أنخابها من دماء ذويهم. ( السبيل )