اشتباكات (الاخوان) : الازمة ليست هنا..!

فيما مضى كان الاخوان المسلمون في الاردن يتمتعون بمهارة كبيرة ، تجعلهم قادرين على تصفية خلافاتهم داخليا ، واخترالها دائما في دائرة التعددية المشروعة ومنع تداولها ـ اعلاميا ـ خوفا من استعداء الرأي العام ، أو من شماتة الخصوم ، أو من بروز استقطابات حقيقية يمكن ان تعصف بالوئام الداخلي الذي يشكل ـ تاريخيا ـ صمام الامان لها ، سواء في علاقتها مع قواعدها أم مع محيطها الاجتماعي والسياسي.
خذ مثلا،في العقدين الماضيين شهدت الحركة الاسلامية العديد من الازمات ، وتابع المراقبون سجالات الاخوان حول موضوعات مختلفة ، وانتهى بعضها الى حالات من الفراق والطلاق ، اذ خرج بعض الغاضبين على موقف الجماعة من مقاطعة الانتخابات مثلا ، واختار بعض العاتبين عليها ان يهربوا للعزلة والصمت ، وبقي طرف ثالث يحاول تعديل المسيرة وفق رؤيته ، فنجح احيانا واخفق احيانا اخرى ، ولم تسلم تلك المرحلة من صناع الاصطفافات لتصفية بعض الرموز او تنحيتهم ، وقد حصل ان تغيرت قيادة الحركة اكثر من مرّة بعد ان كان استقر في عرف الجماعة ديمومة الرمز وتجديد الثقة به ما دام قادرا على العطاء.
ترى هل تغيرت الصورة الان؟وهل داهم الربيع العربي الاخوان مثلما داهم الانظمة والحكومات،وهل بوسع الاخوان ان يتعاملوا مع هذه التحولات بالمنطق القديم،حتى داخل بيتهم ومع شركائهم في المشروع ذاته.؟
ربما تكون هذه الاسئلة ضرورية لفهم ارتدادات الربيع العربي على الاخوان فيما يتعلق بالعلاقة فيما بينهم(دعك الان من علاقتهم مع غيرهم)،فقد شهدنا في الاسابيع الماضية سجالات صامتة بين الفاعلين داخل البيت الاخواني،تحولت فجأة الى دائرة العلن،ولم تكن بالطبع بعيدة عن تدخل عاملين خارجيين مهمين:احدهما تصريحات الاخ خالد مشعل التي ايقظت لدى بعض الاخوان هواجس قديمة حول “هوية التنظيم”واتجاهات بوصلته،وثانيهما الجانب الرسمي الذي حاول ان يدخل على الخط من خلال اجراء حوارات مع المحسوبين على تيار التشدد والمقربين لحماس للوصول الى تفاهمات حول الانتخابات القادمة. لا ننسى هنا ايضا التحولات التي جرت في مصر والتي حاول بعض الاخوان استثمارها لتقوية موقفهم سواء تجاه الرسمي او اتجاه الفريق البعيد عن صف القيادة حاليا..هذه كلها افرزت حالة من (الارتباك)والشد داخل التنظيم ،ودفعت البعض للخروج عن صمته للتحذير مما يجري او التنبيه لما يمكن ان تفضي اليه محاولات هيمنة او استقواء تيار على تيار آخر.
تاريخيا: ثمة قضايا كبرى ظلت تتردد داخل بيت الاخوان ولم يكن ممكنا حسمها آنذاك ، بعضها يتعلق بالسياسة وممكناتها واضطراراتها(بعد الافتراق الذي حصل بين الدولة والاخوان) ، وبعضها يتعلق بالتنظيم وعلاقته مع الشعب الاخرى ، وثالثة(وهي الاهم) تتعلق بهوية التنظيم وما تفضي اليه من توازنات واعتبارات ، كان السكوت عن هذه القضايا مشروعا فيما مضى لأنها لم تتجاوز دائرة الافكار المطروحة للنقاش داخل الكواليس فقط ، ولم تجد من يتحمس للفصل فيها أو استخدامها للوصول الى هدف ما او موقع ، لكن يبدو ان المسألة تغيرت في ظل التحولات التي فاجأت عالمنا العربي وفاجأت الاخوان ايضا ، فوجدت هذه القضايا من يحاول نبشها من جديد ، ثم جاء ملف الاصلاح وموقف الجماعة منه ليشكل انعطافة(ان شئت امتحانا )لوحدة الموقف الداخلى للحركة ،وحقيقة اولوياتها :هل هي داخلية ووطنية بامتياز ،او ان لها حسابات اخرى واجندات تدخل على خط الداخل وقد تهمشه احيانا،وازعم ان هذا ما يزعج الاخوان الان.. وما يحاولون عدم الدخول اليه او تحميله اكثر مما يحتمل ، خاصة بعد ان وجد بعض المحسوبين على ما يسمى بتيار الصقور ان الاختلاف مع اخوانهم يمكن ان يخرجهم من دائرة اللعبة ما لم يستدركوا حسمه لصالحهم ، وما لم يدفعوا بكل اوراقهم للانتصار فيه،وقد نجحوا في ذلك واستثمروا ما لديهم من عناصر قوة للامساك بزمام المبادرة “واللعب”في المسموح وغير المسموح فيه،دون ان يدركوا خطورة اللعبة على الجماعة سواء فيما يتعلق بوحدتها الداخلية او بعلاقتها مع مجتمعها الذي حدد اولويته باتجاه الاصلاح الحقيقي بلا صفقات ولا اختراقات.
ما يحدث داخل الحركة ليس بجديد كما قلنا ،، فقد شهدت ـ كما ذكرنا سلفا ، ازمات اعقد ، وحراكات اشد شراسة ، ثم خرجت منها ، واجتازت امتحانها.. لكن المهم ليس هنا وانما في مسألتين :اولاهما ان بعض قيادات ما يسمى بالحمائم (التسمية الان غير صحيحة اطلاقا)وجدوا ان الطرف الاخر تجاوز اصول اللعبة وخرج عن ثوابت التوافق ومد لسانه لهم ،وقد آثروا الصمت في البداية لكن لم يجدوا امام اصرار الاخرين على الاستمرار في تقمص الدور الا الخروج للرد والتوضيح وازالة الالتباسات الي اساءت للحركة :تاريخا ومسيرة، اما المسألة الاخرى فهي تتعلق بمخاوف معتبرة من تراجع دور الحركة ، سياسيا واجتماعيا ، ومن انشغالها بهذه السجالات والتدافعات على حساب رسالتها الدعوية والاصلاحية،او من شعور البعض في الحركة بنشوة الانتصار؛ ما يدفعهم الى التعامل باستعلاء مع شركائهم داخل الجماعة او خارجها.
لا يسعدني ـ هنا ـ ان ادخل في التفاصيل ، ولكنني اريد ان اقول بأن ازمة الاسلاميين اليوم ليست ازمة صراع بين اطراف (صقور وحمائم..)فحسب، وانما ازمة بنيوية اولا فيما يتعلق بمكونات الجماعة فلا يعقل بعد سبعين عاما ان يشعر البعض بان هواجس الجغرافيا والديمغرافيا عادت من جديد لكي ترسم خرائط المواقف والافكار وتحسم الخيارات داخل الجماعة،هذا غير معقول اذا ما تذكرنا بان افكارا مثل الوحدة والتكامل ناهيك عن الاخوة هي من ثوابت وادبيات الحركة،واذا ما تذكرنا بان سر نجاح الحركة يكمن اصلا في قدرتها على “لم” الصف الوطنى وتجاوز محنة الاصطفافات والانتماءات الجهوية وغيرها،واذا ما افترضنا قبل ذلك ان الحركة جزء من (الجماعة الوطنية) وان وزنها في الشارع لم يتحقق الا لانها كذلك.
و ازمة بنيوية ثانيا فيما يتعلق بمشروعية دورالجماعة وحضورها وتأثيرها وقدرتها على التطوير والتجديد.. لا في مجالات السياسة فقط ، وانما في مجالات الفقه والفكر والدعوة ، فبعد اكثر من ستة عقود لا يمكن ان نتصور ان دور الاخوان لم يتجاوز اي دور يمكن ان يقوم به مركز أو جمعية خيرية حديثة.. ولا يمكن ان نتصور ايضا ان مهمتهم الاحيائية لم تحقق الا النزر اليسير من الاهداف.. بدل ان تحقق مشروعا حضاريا اسلاميا ، سبق لرجال افراد مثل الافغاني وغيره ان انجزوه بأنفسهم.
باختصار،ازمة الحركة التي يصورها البعض ـ قاصمة ـ حين تدور بين الحمائم والصقور لاختطاف المواقع وتمرير الافكار ليست اكثر من ازمة عابرة تطفو على السطح فتبدو مكبَّرة او مصغرة مبالغا فيها اكثر مما يجب ، اما الازمة الحقيقية والقاصمة فعلا فهي في مشروعية دور الحركة وتأثيرها وقدرتها على ترسيخ اولوياتها الوطنية والحفاظ على تماسكها ورصيدها الشعبي واقناع الناس بها ،والاهم موقعها في الساحة بعد ان استطاعت بعض شقيقاتها من الوصول الى السلطة ..والرئاسة ايضا. ( الدستور )