الخوف على اللغة
من حق كل أمة من الأمم أن تخاف على لغتها من الضياع ، هذا الضياع الذي يسبقه في العادة الاستعانة بمفردات لغة من اللغات الأخرى ، والإعراض عن مفردات أصيلة ، ومع مرور الزمن يحلُّ المُـستعان به مكان الأصيل ، وعندها تفقد اللغة أهم مقوماتها وهي الهوية التي تُعبّـر عن ثقافة مجتمعها ، الفكرية، والعقائدية، والعلمية، والاجتماعية .
لا نختلف مع من يقول : إن اللغة كائن حي يعيش معنا بتفاصيل حياتنا اليومية ، وقد نكون معه وبحذر شديد بأن اللغة كونها كائن حي فهي قابلة للتطور، والتغيّر، وبالتالي إلى الموت ، ولنا من التاريخ الإنساني أدلة كثيرة على ذلك ، ومن نافل القول ذكرها .
أقول : إننا مع من يقول بهذا القول ولكن بحذر شديد ، وأقصد بالحذر استثناء اللغة العربية من صفة الموت ، مع التأكيد على أنها كائن حي قابل للتطور ، والتغير ضمن إطار الهوية العربية ذاتها ، فلو نظرنا إلى الماضي ، ووقفنا أمام تلاشي كثير جداً من اللغات ، واندثارها نجد أنها لم تستطع الاستمرار لأكثر من ألف سنة على أبعد تقدير ، وأن لغتنا العربية ما زالت تعلن عن نفسها منذ أكثر من ألف وخمسماية سنة ، مع قدرتها لاستيعاب مفردات جديدة، ومصطلحات جديدة ، بمعنى أنها ليس متحجرة كما يدعي البعض ، وأنها صالحة لكل زمان ، ومكان ، وهذا مؤشر يجب أن ننتبه إليه ، ليس من أجل المفاخرة في ثبات اللغة ، بل من أجل المفاخرة بثبات الهوية الثقافية، والاجتماعية، والعقائدية ، وإذا قال قائل :إن الأمر في هذا العصر مختلف عن العصور التي استمرت فيها لغتنا عفية ، فالتحديات أكبر ،وأكثر خطورة ن فإننا نقول له : لقد عاشت لغتنا تحديات في العصرين الأموي، والعباسي تفوق التصور إذ أنها عاشت بين أكثر من مئة لغة محلية، وقبلية في ذات الوقت ، وعلى أرض واحدة ، ففي العراق مثلاً كانت الشعوب المختلفة الأجناس ، والثقافات ، كل منها يتخاطب بلغته الخاصة ، ومع ذلك استطاعت اللغة العربية أن تصهرها جميعها في بوتقتها ، بل أكثر من ذلك فقد استطاعت أن تمنحها هويتها العربية، وليس حروفها فقط ، ودليلنا على ذلك ما تركه علماء الفرس، والرومان، والأفارقة من مخطوطات كُتبت جميعها بلغة عربية لا يشوبها شائبة ، وهذا دليل على أنهم جميعهم ، كمفكرين، ومبدعين استخدموا اللغة العربية للتعبير عن أفكارهم ، وإبداعاتهم .
رغم ما تقدم ، فأنا أقول بصراحة : إنني أخاف على اللغة العربية ، نعم أنا خائف على اللغة العربية من أنصاف المثقفين العرب الذين يملؤون ساحتنا الثقافية ، والذين لا يُحسنون استخدام لغتهم ، ففي الوقت الذي حرص فيه سيبويه، ونفطويه، وابن الرومي، وابن المقفع على معرفة أسرار اللغة العربية ليصبحوا فرساناً في مجال الكتابة بها ، والكتابة بها بلسان فصيح لا عوج فيه ، فإننا نقرأ لشعراء الأمة العربية كتابات أقل ما يقال عنها أن كاتبها مهزوم أمام لغته ، وهذا مثال من كتابات الذين ينتشرون فوق المنابر بفخر
سقطت سمكة من على شجرة توت
فوق غيمة من اليورانيم النرجسي
فاستفاقت أختي ذات الخصر الطحلبي
بالله عليكم هل يحق لي أن أخاف على اللغة العربية من هؤلاء ، وهل انتبهت الجهات الرسمية لمثل هذا الكلام ، وأترك لكم الحكم على من يسعى إلى دمار لغتنا بكل جمالياتها ، هذه اللغة التي صمدت أمام مئة لغة هل تستطيع أن تصمد طويلاً أمام شاعر المرحلة ؟؟