الاستقطاب الطائفي!!

تتسع كلمة الاستقطاب في هذه الايام لمختلف المفاعيل السياسية، وهذا بحد ذاته ليس امرا طارئا، فطالما لعب الاستقطاب دورا تاريخيا في تحالفات وسياقات سياسية واقتصادية، لكن ما يميز الاستقطاب الان كفعالية سياسية في النطاقين الاقليمي والدولي هو كونه طائفيا بعدة امتيازات، ولا يغير من الامر شيئا ارتداء الأقنعة او اطلاق الاسماء المستعارة على هذا النمط الايديولوجي من الاستقطاب، فمنذ فترة ليست بالقصيرة طغت هويات فرعية ومذهبية على هويات قومية، وكأن اثنين من المشتغلين في هذا الحقل الدولي الملغوم من الامريكيين قد أصدروا موسوعة عن الاثنيات في العالم المعاصر والتي بلغ عددها أكثر من مئتين واربعين اثنية، كان ذلك على ما يبدو متزانما مع نهايات الحرب الباردة وتفكيك الاتحاد السوفيتي الذي كان ساحة لاندلاع اثنيات هاجعة في باطن الاتحاد ومغطاة بخوذة امبراطورية شاسعة وثقيلة.
في عالمنا العربي، تحول الاستقطاب الطائفي من حراك شبه سري الى نشاط علني، واصبح الخطاب المدجج طائفيا واثنيا يتردد بوضوح وعلى مدار الساعة وثمة ميديا حاذقة ومسيسة بقدر ما، هي مسيرة لعبت دورا في تعميق الخطوط، فبعد أن كانت مرسومة بقلم الرصاص او الطباشير اصبحت الان محفورة بجنازير الدبابات!
ويبدو أن من العوامل التي غذت هذا الاستقطاب حالة الفراغ التي أعقبت تدهور المشروع القومي وكذلك اليسار الذي تخلى عن راديكاليته وهاجر الى مواقع جديدة هي البيئة وحقوق الانسان ومنظمات المجتمع المدني.
وكما ان الطبيعة لا تطيق الفراغ فان التاريخ كذلك ايضا، اذ غالبا ما تتوارى مفاعيل وديناميات الاستقطاب الطائفي وراء حراك قومي او يساري، لكن ما يبدو على السطح في حالات كهذه هو مجرد الجزء الناتئ من جبل الجليد، فهناك ثقافة شفوية وطقوس وتربويات مؤدلجة تغذي الهويات الطائفية، ولا يمكن لاحد ان يتصور بانها اندلعت فجأة لمجرد ان ارتخت الدولة وتراجع غطاؤها الفولاذي كما حدث في التجربة السوفيتية.
ان الاستقطاب الطائفي هو البرهان الحي على اخفاق مشروعات كبرى، واستقطابات من طراز اخر، لكن فزعة الانحسار والانكفاء التي ميزت هذه الحقبة بحيث اصبحت دول وكيانات اشبه بالسلاحف التي تخشى ان تفقد اصدافها فتتحول الى هلام.
فهل كانت الافكار والايديولوجيات والنظريات الكبرى مجرد اقنعة تخفي انتماءات طائفية تنتظر اللحظة المناسبة للاندلاع؟
الارجح ان ما انتهى اليه شكل الدولة في القرن العشرين وبالتحديد بعد الحرب العالمية الثانية هو فشل النشيد مقابل انتصار الرغيف وهاجس الهوية الجريحة.
ما يحدث الان وبمختلف الصيغ والخطابات هو استقطاب طائفي، وكأن كل ما بشرت به التيارات الانسانوية والايديولوجيات الكبرى هو مجرد طلاء!! ( الدستور )