في ظلال آيات الصيام

نترك التعليق على أحداث مصر، وسخونة الجو السياسي، ونترك الكتابة في هذا التوتر المشحون المزموم المأزوم الملبد بالغيوم، لنستروح ظلال آيات الصيام. على أنّ للأحداث عوداً، وهي على العموم معركة لا بد من خوضها. والمفارقة أنّه كان يحكم مصر رئيس معوق بلا ذكاء مطلقاً، وكان يدّعي أنّه إله في الأرض، كما قال شاعر الحزب الأثيم في قصيده اللئيم في مديح مبارك، وارجع إليها كيف يخاطبه أنت الواحد الأحد، وأنت مثل ربنا..الخ.
والآن يريد العلمانيون رئيساً منزوع الدسم منزوع الصلاحية فاقد الأهلية "شخشيخة" بالمصري.
وأنت تسمع الإذاعات وتشاهد الفضائيات والمناحة المنصوبة على القضاء واحترام الدستور، وما صنع مبارك المحاكم الدستورية إلاّ لتكون قوة ضاربة بيده يضرب بها متى شاء من شاء، ويتجاوزها إن شاء، فالآن تصبح هذه المحكمة المرجع الذي لا يتخطى ولا يتجاوز. نترك كل هذا لنعيش في أجواء الصيام.
آيات الصيام، وما أدراك ما عظمة آيات الصيام! خمس آيات بينات نيرات حكيمات في القرآن، كأنها تشير إلى الخمس الأركان! صفحتان من القرآن حوت هذه الآيات الخمس، وكأنهما تشيران إلى أنّ صفحة النهار وصفحة الليل..
ولذا جاء في الصفحة الأولى: "أياماً معدودات"، "شهر رمضان"، وفي الصفحة الثانية: "ليلة الصيام"، "يسألونك عن الأهلة"، فسبحان من رتّب القرآن هذا الترتيب، ونسّقه هذا التنسيق العجيب، وكأنّ القرآن بهاتين الصفحتين اختزل الزمان، وكثّف الأوقات مثلما تجمّع الزمان وتكثّف في ليلة القدر.
وهذه نظرة عامة على الآيات موقعها وترتيبها ونسقها:
ابتدأت الآيات بالنداء، لينسجم مع جو السورة الذي كثر فيه النداء. وجاءت الآية الأولى أقصر آية رمزاً للتخفيف، واستهلالاً بالمدخل اللطيف. وكانت آخر آية أطول الآيات، لقد روضت النفوس وصارت تتحمل التكليف.
وجاء في وسط الآيات وفي درة عقدها من حيث عدد الآيات العدد (عدد الآيات): "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن".
ولا شك أنّ شهر رمضان واسطة عقد الزمان، وأنّ نعمة القرآن قلب النعم التي منّ بها المنان على أمة الإيمان، أما رأيت إلى سورة: "الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب" وهي سورة الكهف، جاءت في وسط وفي قلب سور الحمد مثلما جاءت آية: "شهر رمضان" في القلب من آيات الصيام.
وأمّا الوسط من حيث المساحات والمسافات: فآية "وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب"، فكأنه صار للآيات: وسط ووسط. وهذا له ملحظ، فالقرب من الله واسطة عقد أهداف الصيام. فتأمل!
وملاحظة أخرى أنّ الآيات بدأت بالنداء كما سلف، وبالنداء تستجاش الطاقات، وتستجمع القدرات، وتحفز الإرادات والعزمات، ثم بعد النداء "كتب" وقد تعدد في السورة صيغة كتب، فقبل آيات الصيام مباشرة: "كتب عليكم القصاص" "كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت.." وبعد "كتب عليكم الصيام": "كتب عليكم القتال"
ولاحظ التنسيق العجيب: إنّه ما كتب القتال إلاّ بعد تهذيب الأرواح بالصيام لأن الإسلام العظيم حريص على الأرواح وحتى لا يتحول الناس بحمل السلاح إذا لم تتهذب الأرواح، إلى كواسر وضوار، كالذي تراه من الذين حملوا السلاح دون أن تتهذب نفوسهم وطباعهم وأرواحهم وتزكو أخلاقهم فتحولوا إلى وحوش ضارية، تقتل بلا رادع ولا وازع، فتأمل حكمة الباري!
وملاحظة أخرى، أنّ آيات الصيام الخمس ختمت بالفعل المضارع المفيد الحركة، فليس شهر رمضان شهر البطالة والعطالة، ولكنه شهر العمل والقوة، والإنتاج والجهاد. من هنا جاءت فواصل الآيات فعلاً مضارعاً.
وملاحظة أخرى: أنّ أربع آيات من الآيات الخمس ختمت ب"لعلّكم" في أول آيتين، و"لعلّهم" في آخر آيتين. فلم هذا؟ أقول: لعلّ مردّ ذلك أنّ "لعلّكم" بضمير المخاطب والدورة في حالة انعقاد، أمّا "لعلهم" بضمير الغائب، فجاءت بعد أن انقضت الدورة وتوزّع الخريجون على أرجاء الأرض ينشرون تعاليم السماء.
وملاحظة أخرى: أنّ آيات الصيام ختمت في أولها ب"لعلّكم تتقون" وختمت في آخرها ب"لعلّهم يتقون"، فبالتقوى بدأت وبالتقوى ختمت، ليقول لك أنّ روح الصيام وأهم أهداف الصيام هو تحقيق التقوى.
وملاحظة عامة أخرى قبل أن ندخل في تفاصيل تفاسير كلمات الآيات: أنّ آيات الصيام سبقت بقوله تعالى: "ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن.."، واتبعت بقوله تعالى: "وليس البر بأن تأتوا البيوت ظهورها ولكن البر من اتقى.."
ولا بد أنّ في الأمر حكمة عظيمة وسراً عميقاً، وأعتقد أنّه هو التالي: إنّ أخطر ما تتعرّض له العبادات أن تتحول إلى طقوس وشكليات، وتفرغ من الروح والمضمون والفحوى والجوهر. ولعلّ الصيام أكثر عبادة تعرّضت لمثل هذه المسألة، وما زال الإعلام يشغل الناس بالمسلسلات والمسابقات ونشر ثقافة التسلية والترفيه، وأنواع الوجبات والمأكولات حتى يصبح الصيام فريضة كأنها ما فرضت إلاّ من أجل زيادة الاستهلاك، والمزاحمة في الأسواق، وزيادة الأعباء من النفقات، وزحام الطرقات. من هنا جاء سابقاً ولاحقاً: "ليس البر"، أيّ يا مسلمون لا تحوّلوا العبادات إلى عادات وطقوس وشكليات، فليس البر في الشكليات إنّما البر في الجواهر والمحتويات، فتأملوا ترتيب الآيات.
وملاحظة أخرى: أنّه زُعم أنّ في الصيام كثيراً من الأحكام المنسوخة وبعض الكلمات والآيات المنسوخة، وليس في الواقع شيء من ذلك على الإطلاق، فقوله تعالى: "كما كتب على الذين من قبلكم"، والذي زعم أنّه منسوخ، وما به نسخ، فليس المقصود أنّه كتب عليكم بتفاصيله وأحكامه الفرعية كما كتب على الذين من قبلكم. لا، وإنّما كتب عليكم أصل الفريضة، فريضة الصيام كما كتب الصيام في أصله على الذين من قبلكم، فالصوم كالصبر، قانون عام في الدين، لا يعرى منه منهج أنزله رب العالمين، في الأولين ولا في الآخرين.
وكلمة "أياماً معدودات" قيل زعماً أنّه نسختها كلمة "شهر رمضان" فقد كان الصيام أياماً ثم فرض شهراً، ولا والله، ما الشهر إلاّ هذه الأيام المعدودات، فشهر رمضان توضيح وبيان وليس نسخاً للكلمات السابقة.
وكذا زعموا أنّه نسخ قوله تعالى: "وعلى الذين يطيقونه فدية"، وأنّه كان الأمر بالتخيير، فمن شاء صام ومن شاء افتدى. ولا والله ما كان، وإنّما معنى يطيقونه: يستطيعونه بمشقة بالغة، فهم على تخوم لا يطيقونه وإن كانوا يطيقونه. فافطن رعاك الله.
وكذا زعموا أنّ "أحلّ لكم" نسخت أحكاماً كان معمولاً بها، وهذا الذي زعموا أنّه معمول به إنّما هو استصحاب الواقع، لا أنّه أحكام شرعت لهذا الواقع. فتدبّر! وللحديث صلة.
(السبيل)