" أصدقاء فلسطين " يحاصرونها
يدعي من يفرضون الحصار العسكري منذ سنوات على المقاومة الوطنية في قطاع غزة أنهم "أصدقاء " الشعب الفلسطيني، وهم أنفسهم الذين يحكمون الحصار اليوم على مفاوض منظمة التحرير في الضفة الغربية لنهر الأردن، والهدف واحد في الحالتين وهو فرض حل للصراع من الخارج على عرب فلسطين يستهدف أولا وآخرا ضمان أمن دولة المشروع الصهيوني في فلسطين وحرمان عرب فلسطين من حقهم في تقرير المصير خارج هذا الإطار.
تندب بعض الأصوات "حسدا " حظ فلسطين العاثر الذي حرمها من مؤتمر "أصدقاء " دولي أسوة بمؤتمرات أصدقاء سوريا وليبيا واليمن والعراق وغيرها من الأقطار العربية المنكوبة بمثل هؤلاء الأصدقاء الذين لا يحتاج العرب يمثلهم إلى أعداء، متناسية أن فلسطين قد نكبت بمثل هؤلاء الأصدقاء – الأعداء منذ انعقاد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 الذي تجدد في مؤتمر أنابوليس عام 2007 والذي أنتج اللجنة الرباعية الدولية عام 2002، التي أنتجت بدورها "خريطة الطريق " ل "حل الدولتين ".
فكانت "الرباعية " هي "مؤتمر أصدقاء فلسطين " الذي اجتمع ثمانية وأربعين مرة كان آخرها اجتماع الثالث والعشرين من أيلول / سبتمبر العام الماضي حين وضعت الرباعية جدولا لاستئناف المفاوضات الفلسطينية وإكمالها مع دولة الاحتلال الإسرائيلي قبل نهاية عام 2012 الجاري.
واستهدف اجتماع الرباعية في أيلول / سبتمبر الماضي محاصرة التوجه الفلسطيني نحو إعادة ملف الصراع إلى الأمم المتحدة بعد فشل "مؤتمر أصدقاء فلسطين " الرباعي في إثبات الحد الأدنى من صداقته للشعب الفلسطيني. ومنذ ذلك الاجتماع وفلسطين "المفاوضة " تحاول عبثا فك الحصار الخانق الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي والمالي الذي يفرضه "أصدقاء فلسطين " عليها.
وقد استقال "المبعوث الخاص " السابق ل "الرباعية " جيمس وولفنسون احتجاجا على حصار مماثل عام 2005 ليخلفه توني بلير الذي أعلن مفاوضون فلسطينيون انه شخصا "غير مرغوب فيه " بعد أن اعتبر التوجه الفلسطيني إلى الأمم المتحدة محاولة ل "نزع شرعية إسرائيل " وحرمانا لها من "حقها المشروع في .. الدفاع النفس " وحذر المفاوض الفلسطيني من أن "المفاوضات " هي خياره "الوحيد "، بعد أن عرض قبل ذلك "خطة وادي السلام " وهي نسخة "رباعية " لمشروع رئيس وزراء دولة الاحتلال الحالي بنيامين نتنياهو في "السلام الاقتصادي "، ليصف دولة الاحتلال مؤخرا بأنها "نموذج " السلام والاستقرار والديموقراطية في بحر إقليمي يمور بفوضى "الربيع العربي " واضطراباته.
والمفارقة أن "الأمم المتحدة " عضو في "لجنة أصدقاء فلسطين " الرباعية وهي التي تشرف على تمويل وأمن مهمة توني بلير في محاصرة التوجه الفلسطيني نحو الأمم المتحدة.
أما روسيا، العضو الآخر الذي عارض في البداية ترشيح بلير كمبعوث للرباعية، فقد لخص موقفها أثناء زيارته الأخيرة لدولة الاحتلال و "السلطة الفلسطينية " الرئيس فلاديمير بوتين، المنشغل حاليا بإحباط خطط "مؤتمر أصدقاء سوريا " - - ومعظم هؤلاء هم أيضا "اصدقاء فلسطين " في الرباعية الدولية - - لإجهاض خطة مبعوث "الأمم المتحدة " كوفي أنان لوقف العنف في سوريا، عندما أشاد بالموقف "المعقول للقيادة الفلسطينية " واعتبر "الأفعال من جانب واحد "، مثل التوجه الفلسطيني إلى الأمم المتحدة، "قبل المصالحة النهائية (مع دولة الاحتلال) ذات نتائج عكسية " وحث هذه القيادة على "إظهار ضبط النفس والالتزام بالالتزامات المبرمة سابقا ".
ومع أن موقف العضوين الآخرين، الأميركي والأوروبي، في رباعية "أصدقاء فلسطين " غني عن البيان، فإن استعراض أحدث تطورات موقفيهما يؤكد نكبة عرب فلسطين ب "صداقتهما ". فقد التقى وليام بيرنز، نائب وزيرة خارجية العضو الأميركي الثالث في "الرباعية "، مع الرئيس محمود عباس برام الله الأربعاء الماضي "على هامش " جولة جديدة يقودها من "الحوار الاستراتيجي " الأميركي نصف السنوي مع دولة الاحتلال، لينقل لعباس التحذير (بعدم التوجه من جانب واحد إلى الأمم المتحدة) الذي وجهته له الوزيرة هيلاري كلينتون في باريس عندما التقته "على هامش مؤتمر أصدقاء سوريا " قبل أن تتابع كلينتون الحوار الاستراتيجي مع قادة دولة الاحتلال عند زيارتها لها في السادس عشر من الشهر الجاري، دون أن تعبأ بالتعريج على رام الله في الزيارة الأولى لها للمنطقة منذ عامين، كونها مشغولة بأولوية بحث "سلسلة من القضايا الاقليمية والثنائية ذات الاهتمام المشترك " مع دولة الاحتلال كما جاء في بيان لوزارتها.
فالزعيمة الأميركية ل "أصدقاء فلسطين " تعتبر فلسطين واحتلالها وقضيتها وشعبها مسألة "هامشية " بالمقارنة مع "الخطر الإيراني – السوري " وهو الموضوع الرئيسي ل "الحوار الاستراتيجي " مع دولة الاحتلال الذي أنشأ له الرئيس باراك أوباما في سنة 2009 "مجموعة عمل " رفيعة المستوى لمواجهة "إيران .. التحدي الأكبر الذي نواجهه اليوم في الشرق الأوسط "، وهي العبارة التي تتكرر بحذافيرها في البيانات الرسمية التي صدرت عن "الحوار الاستراتيجي " بين الجانبين مرة كل ستة اشهر منذ ذلك الحين، وهي ذاتها مجموعة العمل التي أنشأت "مؤتمر أصدقاء سوريا " الذي يدير حاليا معركة قصم الظهر السوري لإيران، وهي ذاتها مجموعة العمل التي تهمش وتؤجل أي بحث عن أي حل للصراع العربي مع دولة الاحتلال، سواء في إطار "أصدقاء فلسطين " أو في إطار "الأمم المتحدة "، وتكتفي ب "إدارة " هذا الصراع بانتظار حسم الحرب على "المحور " الإيراني – السوري الذي تعتبره العقبة الكأداء أمام إحلال "السلام الشامل " في "الشرق الأوسط ".
وكانت هذه الأولوية هي الشرط المسبق الذي أعلنه نتنياهو منذ البداية لاستئناف "عملية سلام " جادة مع الفلسطينيين، وقد نجح في فرض هذه الأولوية على إدارة أوباما، لتتحول الإدارة الأميركية إلى المسؤول الأول عما وصفه عباس ب "الموت السريري " لعملية السلام التي ترعاها، وهي العملية التي وصفها خطأ رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروزو أثتاء زيارته الأولى لرام الله مؤخرا بأنها "يتيمة الربيع العربي "، متجاهلا أنها في الحقيقة "يتيمة أصدقاء فلسطين " في الرباعية الدولية.
وبالرغم من هذا الحصار الرباعي الذي يفرضه "أصدقاء فلسطين " على مقاوميها ومفاوضيها على حد سواء، فإن قيادة منظمة التحرير لا تزال أسيرة "أزمة عدم القدرة على اتخاذ أي قرار سياسي " كما كتب نبيل عمرو، القيادي في حركة فتح، في الشرق الأوسط اللندنية الخميس الماضي.
غير أن قيادة المنظمة صاحبة قرار معلن لا لبس فيه ولا غموض يعتبر التفاوض مع دولة الاحتلال هو "الخيار الأول والثاني والثالث " لها كما كرر رئيسها عباس القول في مقابلته الأخيرة مع القناة الثانية في تلفاز دولة الاحتلال، وفي هذا القرار يكمن التفسير الوحيد لوصف محادثات عباس الأخيرة مع كلينتون في باريس بأنها "مثمرة " ووصف محادثاته مع باروزو في رام الله بأنها "جيدة جدا وبناءة ".
وبانتظار "ثمار " تلك المحادثات، تظل الثمرة الوحيدة الملموسة لقرار خيار المفاوضات أولا وثانيا وثالثا، ولجهود "أصدقاء فلسطين " في محاصرة أي خروج فلسطيني على هذا الخيار، هي أن "إسرائيل تكسب الآن الحرب الديموغرافية في يهودا والسامرة " حيث ارتفع معدل النمو السكاني في المستعمرات الاستيطانية اليهودية في الضفة الغربية والقدس بمعدل (18%) خلال السنوات الثلاث الماضية إلى (525) ألفا الآن يمثلون (10%) من يهود دولة الاحتلال وأكثر من (15%) من مجموع سكان الضفة الغربية، حسب تقرير للأسوشيتدبرس.
فبعد أن أسقط "أصدقاء فلسطين " البندقية من يد ياسر عرفات، ها هم اليوم يسقطون "غصن الزيتون " الذي تسلمه محمود عباس من يد عرفات الأخرى بعد تصفيته.
لكن عباس وقيادته يستمرون في العمل كالمعتاد، مع أنه أعلن في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول / سبتمبر الماضي أنه "ليس بالإمكان وليس بالعملي أو المقبول أيضاً أن نعود لمزاولة العمل كالمعتاد وكأن كل شيء على ما يرام ".
ويبدو أن ناثان ثرال لم يكن يرجم في الغيب عندما توقع في عنوان مقال له في النيويورك تايمز في الثاني والعشرين من حزيران / يونيو الماضي بأن "الانتفاضة (الفلسطينية) الثالثة حتمية "، أيا كان فتيل إشعالها، لأنه يوجد "إجماع في الضفة الغربية " على أن الرئيس عباس "قد وصل إلى طريق مسدود ". ويعود "الفضل " في ذلك طبعا إلى "أصدقاء فلسطين " الذين ما زال عباس يراهن عليهم.