المساعدات الامريكية بين زمنين!

قبل اكثر من نصف قرن وقف عبدالناصر في احد ميادين القاهرة ليقول للمصريين بان المساعدات الامريكية لمصر والبالغة يومئذ خمسين مليون جنيه على الحذاء اذا كانت ثمنا لاستقلال البلاد وكرامة العباد، وطالب ناصر شعبه بشيء من التقشف المؤقت لاجتياز الازمات، ولا ندري كم تساوي الخمسون مليون جنيه في ذلك الوقت قياسا الى قيمتها الشرائية والسياسية اليوم؟.
وفي ذكرى ثورة يوليو بعد ستين عاما من اندلاعها بقيادة الجيش وعلى نحو مغاير ليناير التي لحق فيها الجيش بالناس يقف اكثر من ثلاثين سناتورا امريكيا في الكونغرس للمطالبة بحجب المساعدات الامريكية عن مصر، اذا لم يعلن رئيسها الجديد التزامه التام بكامب ديفيد واستمرار السلام الدافئ مع اسرائيل.
كم تغير الزمن، وكم تغيرت نظم وحكومات ومفاهيم حول التاريخ لكن ما لم يتغير هو خطاب المعونات من الاغنى للافقر. وهي بالطبع ليست صدقات لوجه الله تعالى، لان المثل الانجلو ساكسوني المحفوظ عن ظهر قلب لدى اعضاء الكونغرس والادارة هو ما من وجبة عشاء مجانية في السياسة.
بالطبع لن يقول رئيس مصر المنتخب ان مليارا وثلاثمائة مليون دولار على حذائه، خصوصا وهو يستقبل وزيرة الخارجية الامريكية في اول زيارة لها لمصر بعد انتخابه، وكان لخمسينيات القرن العشرين وستينياته خطاب اخر وروح اخرى. فحركات التحرر كانت في حالة مدّ والاستعمار باشكاله الجديدة وطبعاته الحديثة كان في حالة جزر، لهذا كان لذلك الزمن قاموسه السياسي وبلاغته الاستقلالية، بحيث تبدو عبارات ناصر من طراز على حذائي او نقلع لسان من يهددها ويتدخل في شؤوننا من قبيل ثقافة سياسية مختلفة شكلا ومضمونا.
والمثير للتأمل في رفض عبدالناصر للمعونات المشروطة انه حين طالب شعبه بشيء من التقشف قال اشربوا الشاي خمسة ايام في الاسبوع والقهوة اربعة ايام فقط، لم تكن متوالية الاستهلاك الشيطانية في تلك الايام على هذا النحو العجيب الذي نعيشه، ولم يكن الانفاق على الثرثرة بالموبايل يصل عشرات اضعاف اية معونات مشروطة، ولم تكن ثقافة المحتاجة غناجة قد سقطت على الوعي بحيث اصبح معيار القبول هو الطاعة ولا شيء آخر..
هذه ليست مفاضلة بين زمنين أو رئيسين، بل هي مجرد تأملات فيما طرأ على كوكبنا خلال ستة عقود أصبح الانسان فيها يعيش بالخبز وحده، ويقبل الكلب من فمه متحملاً لعابه النجّس كي يظفر بحاجته منه.
أعرف ان للسياسة شجوناً من طراز آخر، لا يعترف بمثل هذه التداعيات أو النوستالجيا، فما مضى قد مضى ولن يعود الا اذا تم استئصال ثقافة تقبيل الكلاب وأداء طقوس بيت الطاعة الدولي من شروشها..
كم تغير الزمن لكن الأوجاع هي ثابته الوحيد!.( الدستور )