الأردن والأزمة السورية...الجلوس حول الطاولة لا فوقها

شيئاً فشيئاً يتجه الموقف من الأزمة السورية للتبدل والتغيير...وفي خضم الكم الهائل من “الأكاذيب” و”الحقائق” المحيطة بتحوّلات هذا الموقف، يتعين على المراقب والمتتبع، أن يبذل جهداً إضافياً لتلمس الحقيقة وتتبع خيوطها وخطوطها، لفرز غث المعلومات عن سمينها...على أن الأمر الذي لا تخطئه العين، هو أن الأردن بدأ الخروج عن “حذره” و”تحفظه” السابقين، وأخذ يقترب تدريجياً من مقاربة “المحور التركي – السعودي – القطري”، المدعوم غربياً (معظم الغرب)، حيال الأزمة السورية.
لم يكن الأردن الرسمي على علاقة ودّ مع نظام دمشق، ولم تعرف العلاقات الثنائية بين البلدين سوى أشهر عسل قصيرة، باعدت ما بينها أزمات متعاقبة، واصطف البلدان في خنادق متقابلة حيال مختلف أزمات المنطقة وملفاتها: الأردن دعم عباس وسوريا دعمت حماس (قبل أن ينفتح الأردن على حماس وتغادر الأخيرة دمشق)...الأردن دعم 14 آذار وسوريا وقفت بقوة خلف 8 آذار...الأردن دعم العملية السياسية في العراق، وسوريا قاومتها وانخرطت في دعم المقاومة العراقية (على التباساتها)...الأردن منح عملية السلام كل دعم ممكن، وسوريا تعاملت معها من منطلق براغماتي، وكوسيلة أكثر من كونها من غاية مطلوبة بذاتها ونتائجها...الأردن اندرج في سياق محور الاعتدال وسوريا نظرت لنفسها كبؤرة وقلب لمحور المقاومة والممانعة.
لكن الأردن مع ذلك، لم يُبدِ حماساً ظاهراً لدعوات العسكرة وصيحات التجييش والتدريب والتمويل والتهريب والتسليح التي انطلقت من أنقرة والدوحة والرياض...السؤال الأهم أردنياً كان باستمرار يدور حول كيفية إسقاط النظام وكلفة هذه العملية، والأهم حول من سيَخلِفَهُ...فعمّان التي اكتوت ببعض نيران “عراق ما بعد صدام حسين”، خصوصاً بعد أن تحوّلت “الإنبار” إلى مصدر للصدع والصداع الأمنيين، لن تكون في حال من الأحوال في موقع المرحب أو المُتسبب بنشوء “أنبار 2” على حدوده الشمالية، آخذاً بعين الاعتبار أن “الأنبار 1” تبعد عن أكثر مناطق الكثافة السكانية الأردنية ألف كيلومتر من الصحراء، أما “الإنبار 2” فلا تفصلها عن بعض تجمعاتنا السكانية الكبرى سوى كيلومترات معدود، وعن العاصمة ذاتها، مسافة لا تزيد عن المائة كيلو متر، آهلة بالسكان ونابضة بالحياة.
لم يكن الأردن، شأنه في ذلك شأن عديد من الدول والحكومات، على يقين بأن ما يجري في سوريا سينتهي إلى تغيير في النظام، وكانت الحسابات الأردنية تدور حول ما الذي يمكن أن يعانيه الأردن، أمناً واقتصاداً وتجارةً، إن بقي النظام على حاله بعد كل الزوابع التي أحاطت به، والعزلة التي ضربت أطواقها من حوله.
ثمة شيء جديد طرأ، قاد الأردن إلى تغيير في مقاربته...فحسب رئيس الحكومة من جمهورية التشيك، “الحوار لم يعد حلاً في سوريا” وعلى مجلس الأمن أن يتدخل، وروسيا والصين تعرقلان الحل، ومن قبل كانت الأحاديث في عمان تتواتر عن فتح معسكرات للاجئين الذي جاوز عددهم المائة ألف، وهي خطوة تردد الأردن في الإقدام عليها برغم أن أعداد اللاجئين السوريين لديه، تفوق بأربع مرات أعدادهم في تركيا التي أعدت المعسكرات على ما يبدو، قبل تدفق اللاجئين !.
في الحديث عن أسباب هذا التحوّل، يبدو أن عمّان باتت على يقين بأن نظام الأسد “خرج ولن يعود”، وأن المصالح الأردنية في سوريا ومعها، أولى بأن تحفظ، وأن حفظها لن يكون ممكناً بعيداً عن المعسكر المنتصر، أو بالأحرى المرشح للانتصار في الحرب المفتوحة في سوريا وعليها...ثم أن وتائر القمع والموت التي تزداد ارتفاعاً في سوريا، تجعل من الصعب، أخلاقياً وسياسياً على أية دولة أو حكومة، أن تقف صامتة ومتفرجة، فإذا كان الحال المتردي في سوريا يدفع بأركان النظام نفسه للانشقاق عنه، فمن باب أولى أن يدفع دولاً وحكومات، للانشقاق عن النظام، إن كانت حليفة له، أو لرفع نبرة انتقادها لسياساته (الحالة الأردنية) إن لم تكن كذلك.
ولأن السياسة والعلاقات الدولية لا تحكم بقوانين “الجمعيات الخيرية” فالأرجح أن الأردن الذي يواجه أشد أزماته المالية والاقتصادية منذ اندلاع أزمته الكبرى في العام 1989، لن يستطيع ان يقاوم ضغوط “الأشقاء” وإغراءاتهم، سيما وأن الموقف الخليجي الأكثر تشدداً حيال سوريا، يلقى صدى طيباً من لدن “حكومات ونظم ما بعد الربيع العربي” والتي يغلب عليها الطابع الإخواني/السلفي أو “مشتقاته”، وهو تيار بات حاكماً ومتحكماً في سياسات وتوجهات كل من مصر وتونس والمغرب، وبدرجة أقل ليبيا، فضلاً عن نفوذه الذي لا ينكر في الأردن وفلسطين وسوريا وغيرها.
أما على المستوى الدولي، فإن عمّان تقرأ بلا شك، وبكثير من الاهتمام، المواقف الأمريكية – الأوروبية التي تتجه بقوة لدعم خيار إسقاط النظام عسكرياً، وإن عن طريق دعم المعارضة المسلحة وتزويدها بكل ما تحتاج من سلاح ومال وذخيرة وطرق إمداد وتغذية، وهي لا ترى أي حل سياسي ممكناً للأزمة بوجود الأسد على رأس النظام، أو جزءا ً من ترتيبات مرحلة الانتقال، والأغلب أن عمّان، قررت أن لا تكون خارج هذا السرب الآخذ في الاتساع والتكاثر.
ليس للأردن مصلحة في إشاعة الفوضى والعنف في سوريا، ولا في تقسيمها...ليس للأردن مصلحة في وجود نظام أصولي بديل للنظام الحالي برغم تحفظاتها الشديدة على نظامي الأسد، الأب والابن...لكن أما وقد بدأ العالم يخطط و”يهندس” لمرحلة ما بعد الأسد في سوريا، فليس للأردن مصلحة في الاصطفاف في المعسكر الخاسر من هذه المواجهة، ليس له مصلحة في البقاء بعيداً عن ترتيبات “سوريا ما بعد الأسد”، فالمصالح لا تحفظ بالاستنكاف والابتعاد و”الطهرانية”، فالأردن إما أن يكون حول الطاولة أو أن يكون وتكون مصالحه في سوريا، فوقها...الأردن على ما يبدو، قرر أن يجلس حول الطاولة لا فوقها. ( الدستور )