الاستراتيجية الإعلامية والفجوة الأخلاقية

الفجوة الأخلاقية في علاقة الدولة بالإعلاميين وبمؤسساتهم، وفي الإصرار في كل مرحلة على إنتاج نمط جديد من الزبونية والوصاية والاحتواء بكل أشكاله، هي الأهم والأكثر تأثيرا في إعاقة تقدم الإعلام، وليس بالضرورة الفجوة المهنية على أهميتها. فقد تمت المبالغة، وعلى مدى سنين، بالحديث عن الفجوة المهنية، حتى أصبحت الوسيلة والذريعة التي تستند إليها الحكومات للتدخل في الإعلام وانتهاك استقلاليته وتقييده. وهذا ما أشار إليه بوضوج جورج حواتمة وجودث بايز في بحث مشترك نشراه العام الماضي باللغة الإنجليزية، تحت عنوان "المساءلة الإعلامية في الأردن تحت الرعاية الرسمية".
في هذه الأجواء، لا توجد فرص حقيقية لأن تحدث الاستراتيجية الإعلامية التي أطلقت مؤخرا، تحولات حقيقية في بنية الإعلام وفي الأداء الإعلامي. أقول هذا الاستنتاج بكل طمأنينة، وقد كنت شخصيا ساهمت في أفكار وصياغة 80 % من تلك الاستراتيجية. قمت بذلك تطوعا لا أكثر، واستنادا إلى خبرة أكاديمية ومهنية، وإلى مشروع بحثي متخصص ستعلن نتائجه بداية العام القادم. ومع هذا وذاك، ثمة مسافة بعيدة تفصلنا عن نضوج إعلام يكفل تقديم رسالة الدولة الأردنية بكفاءة وجدارة ما دامت مؤسسات الإعلام الرسمية المفترض أن تمثل إعلام الدولة مقيدة بالوصاية، ومخترقة باعتبارات تتجاوز المهني إلى السياسي والأخلاقي؛ فأكبر مصائب الإعلام هي حينما يُدفع بالإعلاميين عنوة لكي يصبحوا سياسيين، ويصبحوا طرفا في اللعبة السياسية يستخدمون أدواتها وحيلها.
توجد في الاستراتيجية الإعلامية بعد أن نامت في أدراج ثلاث حكومات، بعض الأفكار التي ما تزال قابلة لإحداث الفرق إذا ما توفرت الإرادة والقدرة. وبالمناسبة، الإرادة وحدها لا تكفي بدون القدرة، وبأي شكل من الأشكال، وهو الأمر الذي يدفع المرء إلى الشك في أن تحدث هذه الرؤية التخطيطية تحولات حقيقية أكثر من حملة علاقات عامة سريعة. ولعل هذا واضح من نمط ومحتوى التغطية الإعلامية الأخيرة التي لم تأت لا من قريب ولا من بعيد على بعض الأفكار الأساسية التي جاءت بها الاستراتيجية.
ولعل من بين ما يؤكد عدم الجدية واسترخاء الإرادة الرسمية في إصلاح جاد للإعلام، هو السياسات التي اتخذت خلال عهود ثلاث حكومات بعد وضع الاستراتيجية وإقرارها، وإحباط كل حكومة لما تقدم عليه الحكومة التي سبقتها، ومثال ذلك مصير مجلس الشكاوى الإعلامية، وقبل ذلك مصير هيئة تنظيم قطاع الإعلام.
في الاستراتيجية أفكار مهمة إلى جانب مجلس الشكاوى؛ هناك حزمة التشريعات التي بدون تعديلها لا يمكن ضمان بيئة مواتية لإصلاح إعلامي، وإنشاء صندوق للتنمية الإعلامية والثقافية يستفيد من ضريبة الإعلانات التي أقرت مرة بشكل مستعجل لصالح الثقافة وحدها، ثم تم الاستغناء عنها. وفي الاستراتيجية دعوة لمراجعة تحرير ملكية بعض الصحف، وفيها مجموعة من الآليات لتطوير التنظيم الذاتي، ودعوة لتطوير الإعلام المجتمعي في المحافظات، وتطوير الصناعة الإعلامية.
إصلاح الإعلام في الأردن يحتاج إلى التخطيط في هذه المرحلة، لأنه ما يزال في طور التنمية الإعلامية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن من المعيب أن تذهب الحكومات إلى إصدار استراتيجيات للإعلام في المجتمعات الديمقراطية. ولعل المطلب الأول في هذه المرحلة هو اقتراح نموذجنا في الاستقلالية الإعلامية، وردم الفجوة السياسية والأخلاقية المزمنة في العلاقة مع الإعلام.
( الغد )