مرسي ومحنة «الجلوس على مقعدين»

كذّبت الرئاسة المصرية أنباءً إسرائيلية عن “رسالة جوابية” بعث بها الرئيس محمد مرسي إلى الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، رداً على رسالتي تهنئة كان الأخير قد بعث بهما للأول، واحدة بمناسبة فوزه في الانتخابات والثانية بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، ما حدا بالرئيس الإسرائيلي إلى نشر نص الرسالة مترجماً للعبرية (النص الأصلي بالإنجليزية) على حسابه الشخصي على “تويتر” مرفقاً بها صورة للرسالة الأصلية، وصفحة المقدمة (الغلاف) التي بعثت بها السفير المصري في تل أبيب لمكتب الرئيس.
والحقيقة أن هذا السجال على الرسالة، وما إذا كانت حقيقة أم لا، ما كان ليأخذ هذه الأبعاد لولا أمرين اثنين: الأول، هوية المرسل، وهو الرئيس (الإخواني) الذي تربى على ثقافة العداء لإسرائيل والجهاد ضدها، ونشأ في أحضان حركة رفضت “زيارة السادات لإسرائيل” وقادت حملات ضد التطبيع معها ولطالما طالبت بإلغاء “معاهدة الذل والعار”، وطرد السفير وإغلاق السفارة والانتصار لشعب فلسطين المحتل والمحاصر وللأقصى المبارك الذي يرزج تحت نير التهويد و”الهيكلة”.
أما الأمر الثاني، فهو إقدام الرئاسة المصرية على نفي “تبادل الرسائل” بين بيريز ومرسي نفياً قاطعاً....وهو نفي أثار في أنفسنا شكوكاً عميقة حول صحته وجديته، خصوصاً في ظل إحجام الخارجية المصرية عن التعقيب، وقيام الجانب الإسرائيلي بنشر نص الرسالة وصورتها...ما أثار جدلاً لم ينقطع حتى الآن، لا في مصر ولا في إسرائيل.
في ظني أن الرئيس المصري المنتخب، يحاول الجلوس على مقعدين، وهو أمر تعذر على من سبقوه وسيتعذر عليه في نهاية المطاف، والرجل يبدو حائراً متردداً بين مرجعيتين: مرجعية الدولة المصرية التي يرأسها، والتي أبرمت معاهدة سلام مع إسرائيل تعهد باحترامها مراراً وتكراراً، ومرجعية إخوانية اكتسبت شرعيتها ومبرر وجودها وانتشارها من نهجها المناهض لإسرائيل والداعي لمحاربتها بدل الاستسلام أمامها.
تبادل رسائل التهنئة بين الرئيسين المصري والإسرائيلي يندرج في سياق التزامات الدولة المصرية وحساباتها، وهي تستكمل “دبلوماسية الضمانات والتطمينات” التي بدأها الإخوان قبل الثورة وفي سياقها بخاصة عشية الانتخابات وما بعدها...أما نفي الرسائل المتبادلة، فيندرج في سياق الالتزام الإخواني التقليدي الذي يجد محمد مرسي صعوبة في الإفلات منه، وإلا فقد وفقدت الجماعة صدقيتها، وانفض من حولها قوم كثيرون ممن أخذوا بشعاراتها المناوئة لإسرائيل...هي إذن، محنة مرسي والجماعة بعد انتقالهما من المعارضة إلى السلطة، ولا ندري كيف سيتعالمون معها أو سيخرجون منها.
وهي بصفة عامة، محنة الإسلام السياسي عموماً، الذي يجهد اليوم في إعادة إنتاج صورته أمام العالم، ليبدو طرفاً مقبولاً و”جزءاً من الحل لا جزءاً من المشكلة”، بخاصة من قبل عواصم القرار الدولي والإقليمي...راشد الغنوشي ذهب حتى آخر الشوط في زيارته الشهيرة للولايات المتحدة غداة الانتخابات التونسية أو عشيتها (لا أذكر)...حماس رفعت التهدئة إلى مستوى الاستراتيجيا، وهي اليوم تلمح إلى استعدادها القبول بحلول مؤقتة وانتقالية، و”العدالة والتنمية” المغربي لم يجد من يكرّمه في مؤتمر الأول بعد وصوله للسلطة سوى عوفر روبنشتاين المستشار الأسبق لإسحق رابين والمفاوض السابق في أوسلو، بل لقد أسرف الحزب الحاكم في التكريم حين رتب لـ”داعية السلام الإسرائيلي” لقاء/مصافحة مع خالد مشعل لا نعرف عن تفاصيله غير ما سمعناه من هذا “العوفر”، أما حماس، فقد فعلت ما فعله مرسي لاحقاً: النفي والتكذيب.
من حيث المبدأ، كان ينبغي على مرسي وهو يقطع التعهد تلو الآخر بحفظ التزامات مصر واحترام تعهداتها الدولية، أن يدرك بأن لحظة من هذا النوع، ستأتي عاجلاً أم آجلاً، وأنه شخصياً وبعض أركان نظامه، سيجدون أنفسهم حول مائدة واحدة من كبار المسؤولين الإسرائيليين، فالرئيس المنتخب لا يستطيع أن يحفظ “طهارته” بترك ملف التنسيق والتعاون الأمني للمجلس العسكري والمخابرات وحدهما، فهناك أيضا بعد سياسي و”تطبيعي” للعلاقة المصرية – الإسرائيلية يتطلب انخراطاً شخصياً من الرئيس في التعامل مع الإسرائيليين.
من ناحيتنا نرى أن الأمر لن يكون سهلاً على مرسي، ولكنه سيتكيف معه، سيما وأن “الجماعة” أظهرت استعدادات ميكافيللية الطراز للتعامل مع الظروف الجديدة الناشئة من حولها...لكن إدارة ملف أزمة “الرسائل المتبادلة” أظهرت من جهة أخرى الكثير من مظاهر التخبط وانعدام الخبرة في التعامل مع شؤون كهذه...وبرهنت بالملوس أن الجلوس على مقعدين، ليس مريحاً لا لمرسي ولا لغيره.
في الشكل بدت رسالة مرسي، ذات طابع بروتوكلي مجرد، عبر فيها الرئيس عن “امتنانه العميق” لبيريز على التهنئة، وأعرب عن التزامه بالعمل لاستعادة عملية السلام خدمة لشعوب المنطقة، بمن فيها الشعب الإسرائيلي...هذه لغة جديدة تماماً على زعيم إخواني، وهي وإن رأت فيها إسرائيل مؤشرات إيجابية ومشجعة، إلا أنها اعتبرتها غير كافية، فالأرجح أنها كانت (وما زالت) تتطلع لرسالة يعترف بها مرسي بها، بحق “دولة جميع ابنائها اليهود” في العيش والوجود الامن والمعترف به، تماماً مثلما تفعل مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
والحقيقة أننا انتظرنا أن تقدم إسرائيل على مبادرات مبكرة لإحراج القيادة المصرية الجديدة، لاختبار نواياها وسبر أغوارها، على أن النصائح الأمريكية لإسرائيل فعلت فعلها على ما يبدو...لكن مهما طال أمد المسألة أم قصر، فإن لحظة الحقيقة والاستحقاق، لحظة اختبار المواقف وحجم التحوّلات والتبدلات قد أزفت...ويبدو أن الاختبارات الأولى (من ملف غزة ورفح إلى ملف الرسائل المتبادلة) لا تدفع على كثيرٍ من التفاؤل والرهان.
(الدستور )