معضلة الثقة: الدولة، المجتمع، السوق

حالة الاسترخاء التي شهدتها مؤسسات الدولة لفترة غير قصيرة كان حصادها العصابات شبه المنظمة، وفساد الغذاء، وضعف القدرة على إنفاذ القانون. وهي ثلاثة أمثلة لأسوأ ما يمكن احتماله في رداءة الحياة.
يمكن للحملة الأمنية أن تكسر شوكة العصابات وتحد من ظاهرة سرقة السيارات والسطو على المنازل والمحال التجارية، كما يمكن للحملة الموازية أن تنظف السوق المحلي من فساد الغذاء الذي ضرب سلعا رئيسة ويومية وتحت عناوين براقة وجذابة، ولكن هل هذه الإجراءات المتأخرة تكفي لاستعادة الثقة بالدولة والمجتمع والسوق.
قبل سنوات عديدة، كان الأردنيون يتغنون بموقع بلدهم ضمن مؤشرات نوعية الحياة في الصحة والتعليم والبنى التحتية والخدمات العامة، وحتى حكم القانون، ومع أن المقارنات دوما تتم مع السيئين في العالم، إلا أنها كانت تأتي بالطمأنينة. اليوم، لم يعد الناس بحاجة إلى متابعة مؤشرات نوعية الحياة بعدما صمتت وسائل الإعلام عن ترديد التراجع الذي تشهده. فثمة شواهد يومية تذكر برداءة الحياة، وبالأثمان التي يدفعها المجتمع نتيجة الفساد وتراجع الكفاءة العامة. فلطالما بيع الناس مقولة إن الفساد غير مرئي، بينما نلاحظ اليوم كيف ينعكس ذلك في كافة تفاصيل الحياة ويعيشه المواطن خلال اليوم الواحد عشرات المرات.
ضرب ضعف الكفاءة العامة علاقة الدولة بالمجتمع، وأخذت الثقة القائمة على عقد اجتماعي عمره عقود طويلة تنهار تحت ضربات الأزمة الاقتصادية وضعف المؤسسات، ولاحظنا خلال السنوات القليلة الماضية كيف تم تهشيم هذه الثقة وإضعافها، حكومات ضعيفة تأتي وتذهب على عجل، تتكون من نخب رسمية ضعيفة في الأغلب منشغلة بتصريف الأمور اليومية، وغير قادرة على فض مشاجرة بين عشيرتين، ومجالس نيابية شكلية حولت السلطة التشريعية إلى أداة لتوليد المزيد من الضعف وضخ المزيد من الفساد فيما القانون حائر ويعيش محنته المزمنة.
حالة الاسترخاء العامة انتقلت إلى السوق الذي يشهد في الأصل اختلالات مزمنة ولديه استعداد مسبق للفساد والإفساد، حتى وصلت الجرأة للاعتداء الصارخ على غذاء المواطنين، فإذا كان هذا الحال في سلاسل المطاعم العالمية المفترض أن لديها التزامات معروفة بضبط الجودة وحرص ذاتي مصلحي قبل الحرص الأخلاقي، إلى جانب السلع الأخرى التي يقوم رأسمالها الحقيقي على السمعة، فمابالك بالسلع التي يستهلكها عامة الناس في المدن والقرى البعيدة عن العاصمة.
اليوم تعيش البلاد معضلة في الثقة العامة، أي أننا انتقلنا في الحديث عن أزمة ثقة ربما تبقى أو تزول إلى معضلة ثقة أكبر مركبة ومعقدة؛ نلمسها يوميا في المجتمع تبدأ من الأسرة وتمتد للبناء الاجتماعي المتراخي المزدحم بالاشتباكات والعنف وتمتد إلى مؤسسات التنشئة الاجتماعية والمؤسسات التعليمية ومؤسسات الإعلام، وتصل الى علاقة الدولة بالمجتمع، فالدولة التي لم تعد تقنع مواطنيها هي في الحقيقة قد استهلكت رأسمالها الاجتماعي، فيما تسللت هذه المعضلة الى السوق بجرأة غير مسبوقة.
معضلة الثقة العامة، تحتاج إلى منظور مركب للتخفيف من حدتها، او على الأقل وقف الانحدار الذي تقود إليه، يذكرنا هذا المنظور بمبدأ أساسي في مسار بناء الدول يتحدث عن مرحلة القهر القانوني التي تحتاج إليها كل المجتمعات في مرحلة ما.
( الغد )