وجهان لعملة واحدة

تثير «الشروط التعجيزية» التي يضعها كتاب وسياسيون أردنيون وعرب لدعم «المعارضة السورية»، السخرية والرثاء والضحك معاً...لا لأنها «تعجيزية» فحسب، بل لأن مطلقيها يعطون لأنفسهم وزناً ومكانة هم أول وأكثر من يعرف بأنهم لا يمتلكونهما... فتبدو الصورة في نهاية المطاف، أقرب للكاريكاتير الهابط منها إلى «التحليل» أو «وجهة النظر».
هذا يطالب المعارضة باستعادة الاسكندورن وإبداء الالتزام بتحرير الجولان وفلسطين معاً، حرباً لا سلماً...وذاك يدعو المعارضة لتبني نظريات اقتصادية – اجتماعية محددة...وثالث يشدد على التزام المعارضة أولاً، برفض «العمل المسلح» والقبول ببسط سلطة الجيش والدولة على جميع الأراضي السورية...وثالث يريد لها أن تنتفض على «خرائط سايكس – بيكو»...ورابع يذكرها بالأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة...وخامس لا يرتضي بأقل من الدولة المدنية العلمانية الديمقراطية التعددية....وسادس وسابع وعاشر، إلى غير ما في الجعبة من قائمة شروط ومطالب تُشهر في وجه المعارضة نظير الاعتراف بها.
والغريب أن واضعي هذه «الشروط» و»المواصفات والمقاييس» على أهميتها ووجاهتها، هم في الغالب الأعم، من المؤيدين بلا قيد أو شرط للنظام في سوريا، ومن دون أن يكلفوا أنفسهم للحظة واحدة، عناء السؤال عمّا إذا كان النظام الذي يؤيدون، قابل بهذه الشروط وملتزم بها، أم أنه كان أول من أطاح بها وضرب بها عرض الحائط؟؟.
طوال سنوات شهر العسل المديد مع تركيا، ضرب النظام صفحاً على قضايا «اللواء المحتل»، وحمل الاسكندرون في أدبياته اسم «هاتاي»...وتحوّلت الدراما السورية من استحضار «الماضي العثماني البغيض للمنطقة» إلى ماكينة عملاقة لـ»دبلجة» الدراما التركية الهابطة...لم يعلن القوم «انشقاقهم» عن النظام جراء كل ذلك، بل ذهبوا بعيداً في شرح المضامين العميقة لـ»نظرية البحار الخمسة» التي أطلقها الرئيس السوري بشار الأسد.
أما الجولان المحتل، فهو يحمل هذه الصفة منذ خمسة وأربعين عاماً، لم يحرر لا سلماً ولا حرباً، ولم تعرف «المقاومة» طريقاً مباشراً له، وظلت الجبهات والمدافع صامتةً صمت القبور...وحين كانت تشتد أطواق العزلة حول النظام، كما في 2003 بعد سقوط بغداد أو 2005 بعد اغتيال الحريري، كانت المفاوضات حول الجولان، مطلوبة بذاتها، وكوسيلة لتفكيك الأطواق لا لتحرير الأرض وإعادة اللاجئين، ولقد أعطيت مفاتيح التفاوض وشرف الوساطة والوساطات، لقادة ما يسمى اليوم «الإسلام العثماني المتأمرك» بوصفهم المؤتمنين على الأرض والحقوق والمصالح السورية.
أما عن المدنية والديمقراطية والعلمانية والتعددية والوطنية (بما هي نقيض الطائفية) فلا أدري من هو الأولى بأن يُطَالبَ بها، النظام أم المعارضة، ام كلاهما معاً، وبالقدر ذاته...ولماذا لا يرفعها بعضنا إلى مستوى الشروط والمتطلبات الأولية إلا حين يتصل الأمر بالمعارضة، أما حين تتعلق المسألة بالدفاع عن النظام، فيجري إدراجها من باب «كان أفضل لو أن النظام عمل كذا وكذا» ولكن إحجامه عن فعل ذلك يظل في باب «الذنب المغفور» الذي لا يبرر تكالب العالم عليه، واندراج دوله في سياقات «نظرية المؤامرة» إياها.
الوجه الآخر لهذه المواقف البائسة، تلك التي تعبر بلا تحفظ عن دعمها لمجاهدي سوريا ومعارضيها، من دون أن تلحظ أن من بينهم قتلة وإرهابيين ومتآمرين مرتبطين بكل أجهزة المخابرات في العالم، فضلا عن المناضلين قولاً وفعلاً في سبيل حرية سوريا ومستقبلها الواحد الموحد...تقرأ ما يكتب ويقال في مديح المعارضات و»المجاهدين» فتظن أن القوم في عالم آخر، عن وعي أو جهالة أو لحسابات حزبية ووظيفية وانتهازية محضة....هؤلاء هم الوجه الآخر للذين ما عادوا يرون في نظام دمشق، سوى صورته التي يرسمها هو لنفسه، وأحياناً يضيفون عليها «روتوشاً» تجميلياً لا يجرؤ النظام نفسه، على رسمه.
نحن أمام «ثنائية» قاتلة، في النظر إلى المسألة السورية...لا يكفي الوقوف عن أحد وجهيها لمعرفة حقيقة ما يجري في سوريا...وليس من مصلحة سوريا ولا من مصلحة أحد أن ينساق بعيداً في الأوهام والرهانات...الأسد لن يبقى في سوريا، ونظامه راحل مهما طال به المقام واستطال...أما سوريا من بعدهما فلن تكون «جنة الله على الأرض»، ففيها جيوش وميليشيات من الطائفيين والمذهبيين والظلاميين والانتهازيين والمرتبطين بأجندات الإقليم ومطامع الدول الكبرى...يبدو أن معركة سوريا والمعركة عليها، سيشتد إوارها بعد رحيل النظام كما لم يحدث طوال أشهر «مقاومته» للتغيير و»ممانعته» للسقوط.
( الدستور )