بين فضاءين

في الفراغ المزدوج وجودياً وسياسياً، طفت على سطح المستنقع العربي كائنات هي الأخف وزناً كالفلين والأكثر انبتاتاً وانقطاعاًَ عن الجذور، وانهمك الاعلام الداجن لعدة عقود في رصد ثروات راقصات ولاعبي كرة قدم ومطربين، بحيث بلغ بعضها أكثر من مئة ضعف لدخل أشهر وأهم مفكر عربي. قبل ذلك كان المذيع يزهو بأنه استطاع اقناع فلان أو علان من المشاهير باجراء حوار معه، بحيث يتشكل الـ”سي. في” لهذا المذيع من قائمة المشاهير الذين أجرى حوارات معهم. وكانت على الأغلب شاملة وصالحة للبقاء، وعلى سبيل المثال فان كل المحاورات التي اجرتها السيدة ليلى رستم من أبرز مثقفي الستينات يعاد نشرها الآن وكأنها أنجزت البارحة.
في الطفرة الفضائية العربية انقلبت المعادلات كلها، فالمثقفون والناشطون ومن يتصورون أنهم يوم بدأوا يسعون الى مراسلين ومقدمي برامج، لهذا يستغرب كثيراً أحد مقدمي هذه البرامج عندما يسمع مثقفاً يعتذر، ويقول له.. هذه أول مرة أسمع فيها اعتذاراً، أما اللهجة التي يتحدث بها المذيع أو المذيعة فهي مشحونة بالتفضل لأن أشباه المثقفين والنجوم البلاستيكية هم الذين أصبحوا يشعرون بالزهو لأن فلانة استضافتهم أو تفضل عليهم فلانا، فاختارهم.
وفي ذلك الفراغ المزدوج اختفى وانزوى مثقفون ومفكرون جادون ليحل مكانهم أناس من وزن الريشة بحيث أصبح مذيع مثلاً يردد كلمة جمهوري، وما أصنعه في الرأي العام، وحقيقة الأمر ان كثيراً من هؤلاء النجوم البلاستيكية هم مجرد امتداد للمايكروفون يتلقون الاسئلة من معد البرنامج وأحياناً يتصورون بأنهم هم ضيوف برامجهم وليس العكس، وهذه مناسبة للقول بلا أي تردد أو حرج بأن من المثقفين العرب الذين يعفوّن عن هذه الولائم وهي على الأرجح من جيف من يضع ألف مقدم برامج في أصغر جيوبه، ثقافة ومعلومات وحضوراً وحتى صوتاً!.
كفى تلاعباً بالمعادلات وقلبها رأساً على عقب، لأن هناك من يقولون أننا كعرب بدأنا نودع الفراغ السياسي والاستنقاع الذي أفرز كل ذلك العطن.
لكن ما يجري هو عكس ذلك، فالفضائيات تتناسل كالأميبا، ومن لا يفرق بين اسم مفكر معاصر ونوع من الصابون لا بأس أن يشد ربطة عنقه حتى تنتفخ أوداجه ويقول ما يعنّ له قوله بلا حسيب أو رقيب.
والأرجح أن لكل عصر نجومه، مثلما يقال عن الدولة ورجالها، والنجوم العرب في مرحلة ما قبل الفراغ والاستنقاع والعولمة في أردأ طبعاتها وترجماتها كانوا يشعوّن ومنهم من يواصل الاشعاع من قبره. لكن ما أن تبدلت الغزلان بالقردة حتى تحول التقليد الى تقريد وأصبحت النجوم تصنع في معامل المطاط والبلاستيك ومكاتب العلاقات العامة.
لقد أصيب الفضائي العربي بعدوى ما هو أرضي، لهذا نادراً ما نجد من يجازف بالمقارنة بين فضاء وآخر.. ففي فضاءات أقل تلوثاً وارتهاناً وجهلاً يزهو مقدمو البرامج أو مقدماتها باستضافة من ينتظر الناس سماعهم. وفي فضائنا نتهرب من أي كائن يكشف ضحالتنا ويرخي ربطات العنق بحيث تعود الأوداج الى ما كانت عليه قبل البدء بالتصوير!!. ( الدستور )