(النهر لن يفصلني عنك) لرمضان الرواشدة..استحضار التاريخ
المدينة نيوز- هاجسان اثنان يلحّان على بطل رواية النهر لن يفصلني عنك للروائي رمضان الرواشدة (دار أزمنة للنشر والتوزيع، 2006). الأول: هاجس الجنوب، ليس بمعناه الجغرافي الضيق، وإنما بمعناه الإنساني الحضاري الراصد لحالة الصراع بين الجنوب الفقير والشمال الغني، وتباين الثقافات بين هذين التقسيمين. أما الهاجس الثاني فهو البعد القومي الذي يعيشه بطل الرواية في بحثه عن الضفة الأخرى للنهر، ووقوفه هناك يستذكر حالات التاريخ بكامل ألقها وعثراتها، فالعبور هنا لا يفيد الانتقال من حال إلى حال، لكنه يفيد الاندماج والتماهي في كينونة واحدة تبحث عن موقعها تحت الشمس.
النهر لن يفصلني عنك رواية تحتفي باللغة وتحفل بالتاريخ، لكن ليس على طريقة التوثيق، وإنما الابتداع والخلق والاستحضار، فهي تنبش التاريخ من جهة محددة، جهة البحث عن البطولة، وهي أيضا تحتفي بالنص الصوفي الذي بدا في أكثر من مكان على لسان بطل الرواية.
يتبين الخيط الرفيع بين روايتَي رمضان الحمراوي وهذه، من حيث اشتراك بطلَي الروايتين في الانتماء الجنوبي، لكن البطل في الحمراوي كان محددا بالخروج تماما من رحم الوطن للبحث عن فرصة حياة أخرى خارج حدود الوطن الذي ما فتئ ينزف ظلما وتماديا من فئات حاولت أن تسرق ابتسامة أطفاله. هذا البطل يقرر في اللحظة الأخيرة أمام المطار تماما -كحالة مؤذنة بالسفر- أن يمزق جواز سفره كدليل على أن البقاء في الوطن رغم قسوته هو القرار الأخير، أما الجنوبي الآخر في رواية النهر لن يفصلني عنك فقد توقف ليستحضر تداعيات التاريخ عبر حوار داخلي استحضر فيه كينونة الأمة وحالات احتضارها ليعلن أنه سيعبر الجسر، لكن العبور هذه المرة لن يكون باتجاهٍ بَعد آخر، وإنما من الروح إلى الروح، ومن الجسد الأصغر إلى الجسد الأكبر، تتويجا لإرهاصات البطل في البحث عن حالة توحد أمام طغيان حالة التشرذم والخلاف والابتعاد عن الانحياز لكينونة الأمة.
الرواية عند رمضان الروائي (والراوي الذي هو الأنا أو الذات) لا تقول كل ما عندها، بل إن بطلها يتعمد أن يبقي الرؤية مفتوحة على أكثر من احتمال، وحين تنحاز الرواية في مقاطع عدة للنص الشعري، فإن الراوي يريد أن يؤكد حميمية القضية التي يتبناها.
شخصيات الرواية -باستثناء شخصية الراوي- تبدو باهتة إلى حد ما، لكن شخصية الأم وحدها تستأثر بالمزيد من الاحتفاء والحميمية. ما يشد الانتباه أن شخصية الأم بدت غامضة، ليقع القارئ في حيرة: هل هذه هي الأم الحقيقية للجنوبي الذي يبحث عن الخلاص في اتجاهه للشمال والغرب، أم إنها استحضار لصورة الأمة في جسد الأنثى التي تحمل دلالات الخصب؟ هل يريد الروائي أن يشير إلى هذه الحيثية في معرض بحثه عن التوحد الوطني والقومي، أم إنها الأم ذاتها المتعبة التي أثقلتها رحلة الابن في البحث عن الذات؟ لم يقل الراوي لنا لماذا هي متعبة وشاحبة، ولماذا عادت من القبر بعد الموت؟.
الأم هنا ذات دلالة رمزية بامتياز، رغم محاولة الراوي إقناع القارئ أنها أم حقيقية قدمت من الجنوب حاملةً كل سماتها الجنوبية في الطيبة والكرم، لتجعل منها جسرا للتواصل مع المنفيين الآخرين القادمين من الجنوب أيضا في مدينة ربما تلْتَهم أحلامهم الوردية وتحيلها إلى عبثية. قالت لي: أنت نفس لا تعرف للسكون مكانا، حياتك قلق وعيشك صراع، وأنت غريب بين أهلك وربعك، وأنت ما وطدت النفس على العيش الذليل أو الضيم، وما هادنت يوما ولا تعرف للرياء طريقا، فصراعك حاد مع أولئك الذين امتهنوا الدهاء والخديعة والرياء (ص 44).
وفي شخصية يوسف، أراد الروائي تشكيل روحين في جسد واحد، ليشير إلى أن الشخصيتين متداخلتان مكملتان لبعضهما بعضاً، وليستا متناقضتين، فيوسف بن إسماعيل هو بالتأكيد رمز في لثقافة الإسلامية استمده الكاتب من قصة يوسف عليه السلام حين ألقاه إخوته في البئر وزعموا أن الذئب أكله، أما يوسف بن مريم كما أسماه الروائي، فهو القرين الآخر لشخصية يوسف، لكنه يبحث عن صليبه المفقود، وهنا الدلالة واضحة في التشكل الثقافي المسيحي، ودمج الشخصيتين معا يشير إلى تلاحم الثقافتين، وهو تلاحم شرقي الملامح تجاه الآخر الذي يصر على أن يظل دائما هو الآخر عبر استلابه ما يبحث عنه اليوسفين.. أما سارة ، الشخصية التي بدت ثانوية وتمت الإشارة لها على عجل في الرواية، فيخبرنا البطل عن عشقه لها وذوبه في حبها. هل هي نفسها ريتا عند محمود درويش، حين كانت الحب المحرم الذي تحاصره وتهدد بقاءه فوهةُ البندقية؟.
في النص ما يؤكد أنها هي هي بعينها كما يجزم قرينه: قال لي: لكنها من قوم غير قومنا، كيف أحببتها؟ ، ليرد عليه بما قاله يحيى بن معاذ: إن مثقال خردلة من حُب أحب إلي من عبادة سبعين عاما بلا حب . والاسم ذاته يحمل دلالاته التاريخية في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام. هنا تتجه بوصلة الرواية نحو ما هو إنساني، مبتعدةً عن خطاب الآخر الذي يحمل العدوانية، لأنها متأصلة في نفسه.. لكن سارة تختفي فجأة كما يختفي أبطال الرواية واحدا تلو آخر.
نحن أمام نص لا يبوح كثيرا، وإن باح فبوحه حميم، يمزج بين الروائي والشعري، وتنزاح فيه اللغة أحيانا كثيرة إلى لغة الشعر وإلى لغة الصوفيين في البحث عن الخلاص من الجسد وتخليد الروح، والرواية هنا خرجت عن المألوف المعروف في النسج الروائي، فالأشخاص والأحداث والزمان اجتمعت كلها في مكان ضيق لكنه واسع، أوسع حتى من المدى نفسه، لأنها تدور في ذات الراوي عبر الحوار الداخلي الذي يفضي إلى رسم لوحة تشكيلية لبطل يبحث عن البطولة التي تجلب الخلاص، والتي لا يجدها إلا بظهور الحارث الثالث ملك البترا النبطي العربي، الذي يسعى كما تخيل الراوي لتحرير المدينة الأسيرة غربي النهر. وأراد الروائي من استحضار شخصية الحارث الإشارة إلى أن أمة ضربت جذورها بعيدا في التاريخ حتى لو استكانت أو أخلدت للسكون السلبي في مرحلة من مراحلها، فإنها ما تزال تحترف عشق الثورة وتشعل روح التمرد الذي هو بلا شك قادم.
لكن التساؤل الملحّ هو أن المكان حاضر وموجود، لكن الزمان هو الغائب، فمتى يكون؟ هذا ما سكتت عنه الرواية، وما لم يبح به الروائي وبطله الذي قرر في اللحظة الأخيرة أن يلملم حاجياته وأحزانه لمغادرة المدينة الحلم والعودة إلى واقعه المرير.