صديقي جـــــلال

تم نشره الخميس 23rd آب / أغسطس 2012 03:18 مساءً
صديقي جـــــلال
يوسف غيشان

لا أعرف تماما المسوغات التي جعلت من الطالب المادبي جلال جريس النحاس يترك مقاعد دراسة الطب في الإتحاد السوفيتي ويلتحق بفصائل المقاومة الفلسطينية في بيروت، قبل بداية سبعينيات القرن الماضي بقليل ، لكن ما اعرفه يقينا أنه صار منذ ذلك الوقت رمزا ثوريا لنا ،في مادبا على الأقل، لذلك كان من البديهي أن يكون جلال أول من أبحث عنه عندما وصلت بيروت بعد منتصف السبعينيات.

التقيت بجلال في احدى بيوت الطلبة ، وقد كانت مفاجأتي عظيمة ، اذ خلافا للشكل البطولي الذي نصنعه في مخيالنا للبطل كما نتوقعه (طول فارع ، عضلات مفتولة، افتخار بالذات، ثقة بالنفس، وما الى ذلك) وجدت أمامي رجلا قصيرا مفرطا في التواضع كتوما صموتا، يبدو لك كشخص يتجنب الآخرين قدر الإمكان. ولا أخفيكم أن الصورة النمطية للبطل قد تكسرت في مخيلتي وتحولت الى شظايا.

لكن ذلك لم يمنع أن أحاول تركيب صورة جلال الحقيقي محل صورة جلال المتخيل ، بعد ان سمعت بطولات اكثر وأكثر عنه هناك دون ان يتكلم هو عنها ولو حرفا واحد. كان جلال انذاك مسؤول اكبر معسكر تدريبي للجبهة الديمرقراطية لتحرير فلسطين ، وكان من القلة من خبراء تصنيع المتفجرات وتدريب الفدائيين على استخدامها في الثورة الفلسطينية ، وقد درب العديد من الفداييين الذين قاموا بعلميات ناجحة في عمق فلسطين ، كما شارك في العديد من العمليات . وكان من الندرة الذين لم تلوثهم الثروة ولا المال وعاش طوال تلك الفترة التي استمرت لأكثر من عشرين عاما على مخصصه المالي المتواضع.

روى لي أخي نبيل عندما زاره في الثمانينيات ، أنه قد دعا نبيل الى غداء في مطعم فخم، كما كان جلال ابن المعسكرات، ليتبين لنبيل انه مجرد مطعم بسيط جدا كان اخي المفرط الفقر بإمكانه أن يتحمل تكاليفه ويدعو عدة انفار معه ايضا، لكن الروحية النضالية الطهرانية التي كان تكتنف جلال جعلته، مثل ناسك في محراب الثورة، يعتقد ان اي وجبة طعام خارج اطار المعسكر هي فخامة وترف كبير، لا يسمح لنفسه به الا في الحالات الإستثنايية .نسيت ان اقول لكم بالمناسبة أن جلال هو ابن عم أمي، ندى النحاس ما غيرها.

طبعا كغيره من الشرفاء ، وبعد أن تحولت الثورة الى اداة للتفاوض والمساومة ، عاد جلال الى الأردن ، حلط ملط، بعد أن تخلى عنه الرفاق تماما، ليفتح محل (دراي كلين) متواضع جدا استدانه من البنوك، طبعا لم ينجح كثيرا في هذا العمل ،لأنه قضى شبابه ونصف شيخوخته مقاتلا عسكريا ينظف البلاد من الأعداء كما ينظف الملابس من الأوساخ.

بعد عوده جلال الى مادبا تعرفنا عليه اكثر وأكثر لأكتشف فيه رجلا مثقفا بالغ الثقافة والإطلاع في مجال الأدب والرواية ، وهو بالمناسبه شقيق الكاتب المعروف سالم النحاس، وقد كتب رواية ممتازة جدا تدور احداثها على نقاط التماس في جنوب لبنان، وقد قرأت مخطوطتها قبل سنوات ، وكانت رائعة، لكنه لم يرض عنها، وأعاد كتابتها فكانت أروع وأروع ، لكنه لم يرض عنها ايضا، وقضيت الخمس سنوات الأخيرة وأنا أحاول أن اقنعه لينشرها ، كان يعدني خيرا كلما رأيته، لكنه لم يف بوعده، وكم اتمنى أن تقوم عائلته بنشر روايته العظيمة تلك.

نسيت أن اخبركم أننا وارينا جسد صديقي جلال النحاس الثرى يوم أمس ، بعد أن انتصر عليه مرض السرطان ....

صديقي جلال جريس النحاس ...وداعا !!

( الدستور )



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات