ظننتها ستظل صغيرتي

لن نشتري هذا الفستان، لن أسمح لك بالذهاب لبيت صديقتك فلديها اخوة شباب، فلتأت هي عندنا، ممنوع ركوب التاكسي لوحدك، ممنوع الذهاب للدكان لوحدك، هذا البرنامج غير مناسب، لا تطيلي الحديث على الهاتف، لا يمكن السهر بعد العاشرة.. ولا لا لا لا.
وكنت أظن أن قوانين أمي في مرحلة ما من عمري أطول من شريعة حمورابي، وأشد من حكم قراقوش! ولكن كلما تذمرت واعترضت قالت لي: عندما تصبحين أما ستقدرين، ومرت سنوات قبل أن أفهم ما عنته أمي، وقبل أن أجل وأقدر ما كانت تفعله، فقد كنت أظن أن أمي حالة فريدة في الخوف والحرص والرعاية الزائدة لاني كنت وحيدتها، واحتجت فعلاً أن أصبح أماً لأعرف أمي وأعرف أي قلب قلبها، وأي عقل عقلها، وهي التي ما زالت تلاحقني حتى الآن بالمكالمات والاطمئنان وقد قاربت الأربعين!
لا يمكن أن يفهم قيمة الأمومة الا من يجربها، ويعيش معنى أن يخلق الله شيئا منك فيصبح عليك أغلى من نفسك، فسبحان من جعل الأولاد ثمار القلوب وعماد الظهور وقرة العين وزينة الحياة،
احتجت الى أن أصبح أماً لأفهم أن كل ما فعلته أمي يوما كان في مصلحتي، وأنها ما أغضبتني قليلا إلا وهي ترجو سعادتي كثيرا، فقوانينها الصارمة كانت مبنية على ان الحق لا يعرف وجهين، وأن حبل الكذب قصير، وأن الله موجود وإن غاب البشر، وهذه أجمل وأنقى ما بقي في نفسي، وهي الطهارة التي تغسل ما يعلق بي من ذنوب جنيتها على نفسي بعد أن خرجت من عهدة الأم والأب، وأصبحت محاسبة عن نفسي، إحساني لي وإساءتي علي.
وأمي ككل الأمهات لم تتغير ما زالت تراني طفلة بضفائر أو فتاة صغيرة على الأكثر، وهي تتشبث بأمومتها وطفولتي على مر السنين.
أنا لم أفهم أمي فقط، بل تقمصتها مع ابنتي، فأنا أخاف ذات الخوف وزيادة، وأفرض ذات الفرمانات وزيادة، وأدقق وأحاسب بزيادة، وأمي خرجت من اللعبة فهي مع حفيدتها جدة، وهي مصدر للحنان والدلع فقط، وأنا مصدر السلطات، وأمنا الغولة وفاطمة تعترض كما اعترضت ذات يوم وستفهم أيضا عندما تصبح أماً إن شاء الله معنى أن تكون أماً.
يكبر أولادنا فنخاف أن نغادر مسرح حياتهم، ويصبح دورنا دور الآخذ لا المعطي، يكبر أولادنا ونخاف أن نفقد اللذة في قربهم والحنو عليهم، والأنس بهم، والسعادة في البذل لهم، لماذا يجب على العصافير أن تتعلم الطيران وتغادر العش؟!
ستتحجب ابنتي فاطمة عن عشر
سنوات و7 أشهر، وهي ما زالت طفلة عن سابق قناعة واصرار وتصميم، مع أني راجعتها في التأخير قليلا، ورغم سعادتي العارمة بقرارها إلا أن في داخلي حزناً موجعاً ينساب دمعات خفية على غير مرأى منها.
يبكي ويضحك من حزن ومن فرح كعاشق خط سطرا في الهوى ومحا.
فقد ظننتها ستبقى صغيرتي الى الأبد بشعرها الأسود القصير، وجسدها النحيل، ويديها الصغيرتين، وكلامها المضحك ونشاطها المستمر الذي لا يتوقف الا عند النوم، وتكومها في حضني لتنام، وقصة ما قبل النوم، وحليب ما قبل النوم، وأول يوم مدرسة، وأول سورة القرآن، وأول قصيدة، وأول شهادة، وأول وأول وأول وأوائل كثيرة منذ أن أمتعني الله بها منذ عشر سنين جعلتني أظن أنها ستبقى صغيرتي الى الأبد!! لماذا يجب أن تكبر الفراخ؟
ولماذا كبرنا يوما وغادرنا أحضان أمهاتنا؟!
هي سنة الحياة في كل مرحلة أن نكبر ويكبرون، ونتغير ويتغيرون، والسعداء من كان هذا كله في مرضاته سبحانه فعندها فقط سيكون القادم أجمل وأفضل، وستكون أمومة وبنوة الكبر في طاعة الله بداية لقادم به قرة عين لا تنفد، ونعيم لا يزول يوم يكون الجزاء (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما آلتناهم من عملهم من شيء).
اللهم ارزقنا بكثير من «المريميات» و«الخدج» و«العوائش» والفواطم فما مثل البنات الصالحات نعيما في الدنيا وأجرا في الآخرة، وصدق الشاعر:
أحب البنات وحب البنات فرض على كل نفس كريمة
لأن شعيبا لأجل البنـــــــات أخدمـــــــــه الله موســــــى كليمه.
( السبيل )