ليست حربنا

في العام 2010، وقَّع ثمانية وسبعون مواطناً أردنيّاً، مِنْ بينهم كاتب هذه السطور، بياناً واضحاً وصريحاً بعنوان "ليست حربنا"، يعبِّر عن احتجاجهم على ما بدا لهم أنَّه تورّطٌ أردنيّ، إلى جانب الأمريكيين، في حرب أفغانستان. وكان مِنْ بين الموقّعين على ذلك البيان، يساريون وقوميون، وإسلاميون أيضاً. والطرف الرئيس في تلك الحرب، في مواجهة الأمريكان، هو طالبان، كما هو معروف؛ ولا يمكن اتِّهام اليساريين والقوميين، الذين أعربوا عن رفضهم، آنذاك، لأيّ شكلٍ مِنْ أشكال التورّط الأردنيّ في تلك الحرب، بأنَّهم موالون لطالبان أو معجبون بفكرها ونهجها.
آنذاك، اهتمّ الكثير مِنْ وسائل الإعلام المحليَّة والعربيَّة بالبيان، وأجرت الفضائيَّات لقاءاتٍ مع عددٍ من الموقِّعين عليه، وبجريرة ما قيل في أحد تلك اللقاءات، تمَّ اعتقال زميلينا وصديقينا: الدكتور موفَّق محادين والدكتور سفيان التلّ. وعندئذِ، لم يعد عدد الموقِّعين على البيان ثمانية وسبعين شخصاً، فقط؛ بل تضاعف مرَّات عدّة.
ومنذ مدَّة قريبة، وقَّع ألف مواطن أردنيّ بياناً جديداً بعنوان " ليس باسمنا "، أعربوا فيه عن رفضهم محاولات توريط الأردن في الصراع الدائر في سوريَّة. وكان مِنْ ضمن موقِّعي البيان الجديد بعض مَنْ وقَّعوا بيان "ليست حربنا".
والسؤال الذي من الممكن أنْ يدور، الآن، في خلد المطَّلع على البيانين، هو ما الذي تغيَّر، خلال الوقت المنصرم، منذ بيان "ليست حربنا" وحتَّى "بيان ليست باسمنا"؟
في رأيي أنَّ ما تغيَّر فعلاً ليس مرور الزمن، فقط، أو حتَّى نوعيَّة الأحداث وطبيعة المشاركين بها؛ بل، أيضاً، وهذا هو الأهمّ، مواقف بعض مَنْ شاركوا في التوقيع على البيان السابق؛ أعني، تحديداً، المحسوبين على التيَّار الإسلاميّ، الذين شاركوا في التوقيع على ذلك البيان، بحماس، في حين أنَّهم يعملون، الآن، بوضوح، مِنْ أجل توريط الأردن في الصراع الدائر في سوريَّة؛ بل لقد غدتْ أعزّ أمانيهم أنْ يتدخَّل الأطلسيّ وكائن مَنْ كان، عسكريّاً، ضدَّ سوريَّة. ولا يغيب عن البال، بالطبع، كون طالبان حركة ديمقراطيَّة فذّة.. بخلاف النظام السوريّ!
آنذاك، لم يخطر في بال كثيرين ممَّن شاركوا في التوقيع على بيان "ليست حربنا" أنَّ الإسلاميين يختلفون عنهم في منطلقاتهم المبدئيَّة التي دفعتهم للتوقيع عليه؛ أي رفض العدوان الخارجيّ على أفغانستان، ورفض توريط بلادنا في مستنقع الحرب القذرة الدائرة هناك. لكنّ الأحداث بيَّنت، لاحقاً، أنَّ رفض الإسلاميين للعدوان الخارجيّ والتورّط الأردنيّ في ذلك البلد البعيد، كان سببه الوحيد هو كون المستهدف به حركة طالبان الوهَّابيَّة المحسوبة عليهم؛ ما يعني، بالتالي، أنَّ موقفهم لم يكن سوى موقف عصبويّ عابر وليس موقفاً مبدئيّاً ثابتاً؛ حيث عندما أصبح العدوان الخارجيّ يستند إلى أذرعٍ وهَّابيَّة، أصبح مستساغاً، ومدعوماً منهم، وأصبح الاعتراض عليه مرفوضاً ومستنكراً مِنْ قبلهم، رغم أنَّ المستهدف به بلد صديق وقريب.
المشكلة ليست في هؤلاء، بل هي في كون ذاكرة الكثير من الناس مشوَّشة ومثقوبة، وقدرته على ربط المواقف بعضها ببعض، وإدراك دوافعها الحقيقيَّة وأبعادها، محدودة. لذلك، فإنَّه يصعب عليه تمييز المواقف المبدئيَّة الثابتة من المواقف المتقلِّبة والزائقة؛ كما أنَّه يمكن إقناعه، بسهولة، بقلب تسميات هذه وتلك لتعني عكس مدلولاتها؛ مِنْ دون أنْ يكفّ، مع ذلك، عن الاعتقاد بأنَّه مخلص للحقّ والحقيقة. ( العرب اليوم )