أواني الطبيخ المستطرقة!!

قد تكون الهويات الفولكلورية التي يجري تجريفها سياسياً هي أحد اسباب هذه الظاهرة، فالعرب الذين أعادهم القرن الحادي والعشرون الى موجات الهجرة، عبروا عن هذه الهجرات من خلال ما اسميه أواني الطبيخ المستطرقة، وبدلاً من أن يصدر كل بلد عربي خير خبرائه لافادة البلد الآخر، يحدث العكس، فثمة ملايين من المهاجرين من أصحاب المهن الصغيرة وغير الماهرة يندر وجود خبير أو كادر علمي بينهم.
وأول ما لفت انتباهي كان هجرة عدد من المثقفين المصريين الى العراق بعد معاهدة كامب ديفيد وما أصابهم من اختناق تعبيري في زمن السادات، لكنهم سرعان ما عادوا وانتهى الأمر بشراء شقق في ضواحي القاهرة، ثم قلب ظهر المجن للنظام الذي حوصر ولم يعد قادراً على العطاء، والاستثناءات في هذا السيّاق نعرفها ونحفظها لقلة العدد.
وبعد الحرب على العراق، أول ما ظهر في عمان هو مخابز الصمون، وفرع لحلويات باب المعظم ومطاعم السمك المسقوف، اضافة الى الكبة الموصلية ومشتقاتها.
وأول ما كنت أتذكره وأنا اقرأ اليافطات الجديدة هو ما تبقى من فلسطين بعد الهجرة وهو الكنافة النابلسية والكولاج والزعتر والملوخية، اضافة الى ثوب مطرز يلبس في المناسبات اذا تطلب الأمر، وحين رأيت صورة الصخرة المشرفة معلقة على أول جدار في منزل فلسطيني أحسست بالرّعب، لأن تقاليدنا كانت في تلك الأيام هي لا يعلق على الجدار سوى صور الموتى الذين ودعناهم الى يوم الدين!
والآن ينتقل مطعم شهير من ساحة الميدان في دمشق الى عمّان، وينتقل محل شهير للحلويات الى القاهرة ويفترش باعة الزبيب والقطين والفواكه المجففة الأرصفة.
ان كل ما اختاره العرب المعاصرون للتعبير عن هويتهم هو الطبيخ والحلوى، وأحياناً الزيّ أما المنجز الحضاري والثقافي فهو في مكان آخر، قد يكون الكتاب المنسيّ على الرّف ويغطيه الغبار أو حصة التاريخ عن حطين أو عين جالوت أو عمورية.
وليس من اختصاصي أن أتحدث عن حجم التجارة البينية بين أقطارالعرب أو حجم التبادل العلمي والاكاديمي، لأن معظم الأقطار العربية تشترط لمن يريد أن ينقل خبرته اليها أضعاف ما يشترط الاتحاد الاوروبي وكندا وحتى الولايات المتحدة.
لماذا عندما نرحل أول ما يرحل معنا وربما يسبقنا الطبيخ والحلوى؟ وهل تدنت الهوية بحيث أصبحت معلقة على نافذة المطبخ أو المخبز؟
أعترف وبلا مواربة بأن ما يحدث يضاعف هلعي لا على الهوية القومية الأم فقط, بل على وجودنا في هذا الكوكب.
فنحن الآن أمة من اللاجئين على قائمة الانتظار. والمهاجرون العرب نوعان لا ثالث لهما مع انقراض الطبقة الوسطى، أثرياء وطنهم البنك حيثما حلوا. وفقراء محكوم عليهم بالبقاء حتى الموت في بلدانهم. وان خرجوا فالخيام بانتظارهم.
لقد أعادت الهجرات السياسية الجديدة رسم تضاريس خريطة العالم العربي ولخصت الهوية بالطبيخ والحلوى! (الدستور )