عدالة الجرافة

لو كانت الفتاة الأميركية راشيل كوري لاقت مصيرها دهسا تحت جنزير جرافة للجيش الأميركي نفسه، أو لو لم تكن في مواجهة مع "جيش من القديسين" كما صورته الدعاية الغربية على مدى ستة عقود؛ وحتى لو كان حظ هذه الفتاة العاثر لم يجذبها للدفاع عن الفلسطينيين وقضيتهم، وعن أطفالهم وقراهم وضد حصارهم، وماتت بهذه الطريقة؛ لو تعدت تلك الجريمة البشعة الجيش الإسرائيلي، لتحولت محاكمة قتلة كوري إلى محاكمة العصر، ولشكلت إدانة حقيقية لضمير البشرية وما تبقى من أخلاق العسكرية في العالم.
لكنها عدالة الجرافة الإسرائيلية التي كتبت نهاية قصة الناشطة الأميركية في العام 2003، حينما وقفت متحدية أوامر الجيش الإسرائيلي في مدينة رفح.
ذهبت كوري إلى قطاع غزة، المكان الذي حوله الإسرائيليون إلى أسوأ مكان للعيش في العالم، دفاعا عن حق الناس في الحياة، وللاحتجاج على سياسة عنصرية منهجية في هدم البيوت، واقتلاع الأشجار، وترويع السكان. وبعد كل هذه السنوات، تصر المؤسسة القضائية الإسرائيلية على عنجهيتها الأيديولوجية، وتبرئ جيشها من هذه الجريمة بعد القضية المدنية التي رفعها والدا الضحية، بحجة أنه حادث عرضي مؤسف!
تكشف هذه المحاكمة الصورية التي أدت إلى إفلات الجيش الإسرائيلي من مقتل كوري ثلاث حقائق أساسية، يجب أن نقرأها جيدا في الوقت الذي تتراجع فيه مكانة القضية الفلسطينية عالميا وعربيا.
أولا: إن المركب الذي تتكون منه المواقف الأميركية حيال إسرائيل ينطوي على عمق من علاقات المصالح والقوة والتخويف، يتجاوز كل أدبيات حقوق الإنسان وقيم العدالة الإنسانية والحق في الحياة التي صدّعت السياسة الأميركية الخارجية بها رأس العالم منذ مبادئ ويلسون الشهيرة قبل تسعة عقود وإلى اليوم؛ إذ ثمة خوف قهري وابتزاز يجعلان باراك أوباما مكتوف اليدين، ويجعلان مؤسساته الديمقراطية مشلولة، ومؤسساته التي تحرس العدل نائمة.
ثانيا: تأكيد فكرة إفلات جنود النظم التي تدعي أنها تحتمي بالديمقراطية من العقاب. وهو المسار المنسحب على عشرات الأمثلة من جرائم الحرب التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون والأميركيون على حد سواء، ما يؤكد انكشافا أخلاقيا فاضحا ينال القضاء في العالم. فعلاوة على أن القضاء الإسرائيلي مارس، على مدى العقود الماضية، توفير الغطاء القانوني للأفعال الإجرامية للجيش الإسرائيلي، إلا أن التبرئة في قضية اكتملت فيها عناصر الجريمة لفتاة أميركية من أصول يهودية، ذنبها أنها تدافع عن الفلسطينيين، جعل المحكمة وأحكامها مسيسة. فهل سيكون هذا الحكم بداية لحملة عالمية لمناهضة القضاء الإسرائيلي، وإثبات انكشافه الأخلاقي والمهني؟!
ثالثا: إن حركات التضامن الإنساني العالمية مع القضية الفلسطينية لا تعمل فقط في بيئة صعبة، وتمارس نضالا إنسانيا قاسيا، بل كشفت هذه المحاكمة أن العالم لا يوفر ضمانات عادلة، أو بالحد الأدنى من العدالة، لمصير أفراد هذه الحركات وأمنهم وذكراهم، حتى بعد استشهادهم. وإن العالم لا يوفر ضمانات عادلة لأي متضامن مع قضية عادلة، بغض النظر عن جنسه ودينه، إذا كانت إسرائيل طرفا فيها.
لم تشهد السياسة الدولية نموذجا لضعف قدرة المجتمع الدولي، رغم ادعاء توفر الإرادة لديه، كما يحدث هذه الأيام، لدرء المواقف المتطرفة الإسرائيلية الجديدة. وليست مجرد القواعد المؤسسة للتطرف التي أوجدت هذا الكيان، عدالة الجرافة الإسرائيلية تسود وجه العالم.
( الغد )