الاستبداد علّة العلل

منطق غريب وعجيب ومتناقض، ذلك الذي يتعلق به مناهضو ثورة الربيع العربي ضد الاستبداد، الذي يتمحور حول التقاط كلمات لفلاسفة وسياسيين غربيين أعربوا فيها عن تقديرهم وإعجابهم بثورات الشعوب العربية، ووقفوا على عوامل هذه الثورات التي تتجلى باستبداد الأنظمة العربية وفسادها، ومصادرتها لإرادة الجماهير واستيلائها على مقدرات الشعوب، ومحاولة الخروج بتفسير مقنع أمام شعوبهم وأمام الرأي العام العالمي، سواءً أكانوا أعداءً أم محايدين.
هذا المنطق يخلو من العلمية والموضوعية أولاً، ويتناسى جملة من الحقائق البدهية التي يجب أن يخضع لها كل أصحاب العقول، فمنها أنّ هذه الأنظمة الفاسدة والمستبدة تستمد شرعيتها من الدعم الخارجي والعلاقات مع الأجنبي، ولا تستمد شرعيتها من شعوبها، لا من حيث الاختيار، ولا من حيث الأهداف والغايات، كما أنّها قدمت للعدوّ الخارجي خدمة جليلة عندما صادرت الإرادة الشعبية، وعملت على تفتيت الشعوب وتقسيمها وإثارة النعرات التفريقية فيها من كل صنف ومن كل لون، عملاً بمبدأ (فرق تسد)، وليس هذا فحسب؛ بل عملت على تدمير بنية العقل العربي وحطمت البناء الإنساني العربي، وعملت على إخراج نماذج مشوهة، تقود المجتمعات العربية نحو التخلف والفقر والعجز العلمي، والضائقة الاقتصادية والثقافة الاستهلاكية، والسذاجة السياسية والأمية الفكرية والإغراق في التبعيّة والذيليّة.
لقد استطاعت هذه الأنظمة الدموية القمعية، أن تدمر القوة العربية خلال نصف قرنٍ من الزمن، وجعلت من "إسرائيل" دولة عظمى، بعد أن أطاحت بمعنويات الشعوب ومسخت الهوية العربية في عام (67) وما بعدها، وجعلت من أمّة العرب مثالاً للسخرية بين الأمم في العصر الحديث عندما يتساءلون كيف لا يستطيع (300) مليون عربي موزعين على 22 دولة مواجهة (5) ملايين صهيوني جاءوا من شذّاذ الآفاق!!.
قد تكون الإجابة على هذا السؤال طويلة وتحتاج إلى شرح وإسهاب وتحليل، ولكن هناك شيء واحد ينبغي الاتفاق عليه وهو أنّ الشعوب العربية الموزعين على (22) دولة، وعددهم يتجاوز الثلاثمئة مليون معطلون ومفرقون، بفعل قيادات عاجزة وغير قادرة على تحويل الإرادة العربية إلى قوة معقولة قادرة على مقاومة الغزو وقادرة على حماية نفسها، علاوةً على أنّها فرضت نفسها على شعوبها بالبلطجة وبطريقة غير مشروعة وغير إنسانية.
والشيء الآخر البدهي الذي لا يمكن تجاوزه ولا نسيانه أو التغافل عنه، أنّ أية أمة أو شعب، مهما كان عدده من الكثرة لا يستطيع تحقيق النصر إلاّ إذا استطاع بناء نفسه أولاً، وإعداد العدة التي تبدأ بامتلاك الحرية والإرادة الجمعية التي تتجلى باختيار الحكومة التي تستطيع التعبير عن إرادة الجماهير تعبيراً صادقاً وتستطيع حشد طاقاتها؛ لأنّ الأمّة المقهورة داخلياً لا تستطيع قهر العدوّ، والشعب الذي لا يملك إرادته لن يكون قادراً على مواجهة الغزو الأجنبي ولا تحرير الأرض المغتصبة، مهما كان بليغاً بلغة الشتم، ومهما كان فصيحاً بالعنتريات الفارغة المضمون، ومهما ملك من قدرات الخداع والتضليل.
ومن هنا يبدو تهافت المنطق الذي يبرر للأنظمة المستبدة الفاسدة، ويدافع عن دمويتها وقمعها بحجة مقاومة العدو، وبحجة الصمود والممانعة، وقد رأينا بأعيننا وسمعنا بكلّ جوارحنا أنّ جيوشهم أصبحت لحماية الكرسي والبطش بالشعب والتنكيل بالأحرار، ولا تمتلك أي قدر من الشجاعة على مواجهة العدو الذي أدمن توجيه الإهانات للدولة عبر الضرب بالعمق واختراق الأجواء، كما رأينا شجاعة الأنظمة على الشعوب وجبنها وخورها وعجزها واستسلامها أمام العدوّ لمدة تزيد عن أربعين عاماً.
إنّ أكبر هدية يمكن تقديمها للعدوّ الصهيوني المحتلّ، هي العمل على تغييب الحرية والديمقراطية وبقاء أنظمة التسلط والفساد، وإنّ أكبر ضمان لاستمرار الاحتلال، وبقاء الهيمنة الأمريكية والغربية هو استمرار الأنظمة الديكتاتورية في مصادرة إرادة شعوبها، وتحطيم القوة الشعبية وتغييبها عن المشاركة في الحكم والقرار والمسؤولية، وإنّ أكثر من يخدم العدوّ الصهيوني هم أعداء ثورة الشعوب من أدعياء الفكر والثقافة الذين يبررون الاستبداد ويدافعون عن الفساد، ويفلسفون أعمال القمع والدم والتنكيل ومصادرة الحلم بالحريّة والكرامة، ويشوهون نضال الشعوب ويحطّون من شأن شهداء الكلمة وأبطال الحريّة.
( العرب اليوم )