«صناعة» الكتاب العربي !

لا أقصد بهذا العنوان أن اثير الأسى في نفوس الذين يعرفون جيداً حال الكتاب العربي وما آل اليه بين كتب العالم من هبوط في مستوى انتاجه وحجم ما يطبع وينشر منه سنوياً في مجموع الدول العربية الى درجة لا تقارن بما يصدر عن اصغر دولة في اوروبا ! ولا ان أحرج الذين يخجلون من العدد الهزيل للكتب الاجنبية التي تترجم الى العربية كل عام ، لكني أقصد التخفيف من خيبة الأمل هذه باستذكار عهد غير بعيد بلغ فيه الاعتزاز والتباهي بالكتاب في دولة كمصر حداً جعلها تشارك في المعرض الصناعي الدولي المقام في لندن عام 1851 بكتب من « انتاج» مطبعة بولاق القاهرية ضمن صناعات مصرية عديدة أخرى بلغ عددها 391، ومما يدعو للاعجاب ان اغلب تلك الكتب كانت طبية وحصيلة تعاون تلك المطبعة مع مدرسة الطب البشري التي كان قد اسسها محمد علي باشا الكبير في المستشفى العسكري في ابو زعبل وانتقلت فيما بعد الى قصر احمد بن العيني على ضفاف النيل فاشتهرت باسم كلية طب قصر العيني ، وقد كان بعضها مترجماً عن كتب فرنسية لم يمض على صدورها سوى سنوات قليلة وبجهد خالص قام به مترجمون مصريون، اما البعض الآخر فكان قد كتب أصلاً بالعربية مثل « روضة النجاح الكبرى في العمليات الجراحية الصغرى» (1843) للطبيب محمد علي البقلي وكيل مدرسة قصر العيني ، وكتاب « بهجة الرؤساء في أمراض النساء» (1844) لمؤلفه الطبيب حسن الرشيدي مدير المستشفى المُلْكي (أي المدني) بالازبكية، وقد جاء في مقالٍ للباحث المصري خالد فهمي في مجلة «اخبار الادب» 12 آب 2012 أنها كتب رائعة من حيث طباعتها وورقها وشكل حروفها وتجليدها حتى أن جامعة لندن احتفظت بها بعد انتهاء المعرض ومازالت موجودة في مكتبتها وقد نسخت عنها مكتبات عالمية عديدة أخرى كمكتبة جامعة نيويورك لكنها مع الاسف غير موجودة .. في مصر !
ثمة ملاحظات عديدة يمكن ان تنشأ عن هذه العجالة لكن ابرزها في نظري أن مصر عندما كانت سيدة قرارها في القرن التاسع عشر استطاعت أن تصدر كتبا بهذا المستوى وان تترجم بعضها باقتدار وان تنشيء كلية طب تدرِّس بالعربية ، الى ان جاء الاستعمار البريطاني عام 1882 وثلم كبرياءها الوطني فحوّل التدريس فيها الى اللغة الانجليزية، والغريب تاريخياً ان الجامعة الاميركية في بيروت عند إنشائها عام 1868 حذت حذو مصر بتدريس الطب بالعربية لكنها تحولت مثلها الى الانجليزية في نفس العام المشؤوم 1882 ! ومن المؤسف أن جميع كليات الطب التي أنشئت بعد ذلك في اقطار الوطن العربي (باستثناء سوريا) اذعنت للمستعمر بتدريس الطب بلغته ولم تفلح المحاولات العديدة للعودة للغة الأم بعد الاستقلال (!) وآخرها القرار التاريخي الذي اصدره مجلسا وزراء الصحة العرب ووزراء التعليم العالي العرب في اجتماع دمشق في كانون الأول من عام 1989 بتعريب تدريس العلوم الطبية حسب خطة مدروسة بعناية لكن القرار لم ير النور قط !
وبعد .. هل هناك ارادة خفية تعلو الارادات الوطنية وتقف للعربية بالمرصاد ؟ ( الرأي )