الهجوم على الحراك

صحيح أن الحراك الشعبي قد ارتكب أخطاء بعضها لا يليق بأخلاق الحركات الوطنية ونضالها السلمي، وصحيح أن بعض الحراكات قد تجاوزت السقوف المعهودة، وما يسمى الخطوط الحمراء في شعاراتها، لكن هل يبرر ذلك الهجوم والاستهداف المنظم الذي أخذ يتنامى بسلسلة اعتقالات تستهدف الناشطين في الحراك وتحديدا من أبناء المحافظات؟
ما يزال الحراك الشعبي الأردني يمثل ظاهرة اجتماعية سياسية صحية تتأرجح بين التصعيد والتراجع على مقياس أداء الحكومات ومؤسسات الدولة الأخرى، ولم يصل إلى لحظة الانفلات أو الفوضى، بل يعبر عن ضمير الناس وعن الحياة اليومية لملايين الأردنيين بعيدا عن الأدلجة والتأطير السياسي المباشر، ويعبر في العمق الاجتماعي عن خوف هؤلاء الناس على دولتهم وعلى إنجازاتها.
حالة الاستقطاب الحاد التي تمارس من هذه الجهة أو تلك هي محركات للاستفزاز واللعب بأعصاب البلاد والناس معا؛ ويعلم الكثيرون أن لا الدولة ولا المجتمع سوف يتحملان هذا التصعيد، حالات استعراض القوة المتبادلة والمسيرات المتبادلة وإطلاق النار والاعتقالات والشتائم الخارجة عن منظومة قيم المجتمع الأردني، والاعتصام أمام منازل المسؤولين الحاليين والنخب المتنفذة لا تعبر عن روح الحراك الأولى ووضوحه الأخلاقي الذي طالما أحرج بعض النخب السلطوية طوال العامين المنصرمين، فالحراك إذا استمر بهذه الروح يقود نفسه للانتحار الاجتماعي قبل السياسي.
الاستفزاز المقابل الذي تمارسه أذرع الدولة الشعبية مثل مسيرة الهيئات الشبابية في العاصمة تأييدا لقرار الملك بتجميد قرار الحكومة برفع أسعار المحروقات والتي تذكر بمسيرة لأسطول ضخم من السيارات القادمة من بعض المحافظات وجابت شوارع العاصمة العام الماضي، يفسر هذا السلوك لدى الطرف الآخر بأنه عمل استفزازي وعمليا يزج برمزية الملك في حالة الاستقطاب الحادة، ما لا يخدم لا مسار الإصلاح ولا حالة الاستقرار التي تنشدها الدولة.
الحركات الاجتماعية- السياسية الاحتجاجية عمرها من عمر الدولة الأردنية، لكن إذا ما أريد مواكبة حركات التغيير العربية الراهنة، فمن الإنصاف القول إن موجة الحراك الراهنة هي واحدة من تلك الموجات ومن أكثرها كثافة، ولكنها بالمنظور التاريخي ما تزال دون المستوى في التأثير المطلوب مقارنة بحجم الخراب، ومخطئ من يعتقد أنه سوف يخمد أنفاس الناس بمجرد أن يهش بعصاه فوق رؤوسهم.
خلال تسعة عقود، استطاع المجتمع الأردني الحفاظ على حيويته التاريخية، وبقي دوما يملك الإرادة للمطالبة بالتغيير، ويملك القدرة على أن يقول "لا" حتى في أكثر اللحظات صعوبة وحرجا. ولم يتوقف هذا المجتمع عن العراك الحرج مع الطوارئ الإقليمية، كما لم يتوقف عن الجدل مع الدولة والعراك مع أجندة القوى التي طالما حاولت حرفها عن أجندة المجتمع.
الحراك الشعبي خلال عامين قدم هدية ثمينة للدولة الأردنية لم يسبق أن تكررت في الإقليم، ما يتطلب من الدولة أن تكون أكثر إيجابية في استيعاب اللحظة التاريخية؛ فهي إما لحظة وصل أو فصل. وقد أثبت الحراك الشعبي حجم المصالحة بين القواعد الشعبية الأردنية في طول البلاد وعرضها مع الدولة، رغم كل ما يقال عن ضياع الهيبة، ورغم الإدراك الكبير لغربة القانون هذه الأيام، ورغم محنة الظروف الاقتصادية الصعبة وهشاشة منظومة الحقوق والحريات، لكن سخط القواعد الاجتماعية وحنقها بقي دون سقف الدولة ونظامها في الممارسة والخطاب، بل عبّر بأن هذه الحيوية الغاضبة مصدرها الخوف على الدولة. فهل تلتقط الدولة أنفاسها وتدرك ماذا يعني الاختبار التاريخي الذي قدمه الحراك الشعبي.
( الغد )