زنزانة من ورق !!

قبل عدة عقود كتب السوري زكريا تامر قصة بعنوان النمور في اليوم العاشر خلاصتها ان النمور التي تأقلمت مع ثقافة التدجين تحولت في يومها العاشر الى خراف وبدأت تقضم العشب وتنتظر العلف، وقبل زكريا بزمن طويل كتب شاعر انجليزي عن النمور ايضا ومنها واحد تربى في قطيع الغنم حتى تأقلم مع هذا الوضع، الى ان شاهد صورته ذات يوم على صفحة الماء فانتفض واوشك ان يفتك بالقطيع والراعي معا، لانه ادرك بانه نمر وليس خروفا.
وبعيدا عن الاثنين وعن الادب والقصص، نعرف ان السيرك حول نمورا الى خراف مثلما حول الخيول الى قطط كبيرة الحجم تموء ولا تصهل، فالمسألة من صميم هذا التاريخ البشري الذي تحول الى رواية طويلة عن الذابح والمذبوح والخادع والمخدوع واخيرا عن النمور والخراف وما يجري لها من تحولات.
وثمة من الفلاسفة والمؤرخين من يرى ان الحضارة كلها لم تكن غير تاريخ من القمع والتدجين، لكن هناك لحظة ينفجر فيها المؤجل وتخرج مخالب النمر من اغمادها في اقدام القطط، خصوصا عندما تحاصر، فالانسان كما الحيوان يستدعي احتياطاته الاستراتيجية دفعة واحدة عندما يجد نفسه في الزاوية او على الحافة، لكن هذه الحالة تتطلب تراكما وضغطا بحيث يبدو الانفجار كما لو انه القشة التي قصمت ظهر الامبراطور وليس البعير فقط.
وكان احد الفلاسفة التنويريين يقول بان الانسان مسجون في زنزانة من ورق لكنه لا يتجرأ على ملامسة جدرانها فيظن انها من فولاذ، لكن ما ان يتجاسر على لمسها حتى يسخر من نفسه ويكتشف بانه السجان والسجين معا، وقد يخاف الفأر لحظة من صورة قط او افعى مرسومة على الورق لكن ما ان يكتشف الحقيقة حتى يرفسها وقد يقضمها بما عليها.
انها حوارية خالدة، فلا المستبدون تنتهي سلالتهم ولا المقاومون للاستبداد ينقرضون وما يختلف هو شكل او طبعة او تقنية الاستبداد لانه يتطور ايضا كما تتطور ادوات التعذيب، فالحروب تبعا لدوافعها هي ذاتها منذ بواكير الكهف والغاب لكن ما تبدل هو الاسلحة ومهارات الخديعة.
والى ان يصدق الانسان السجين ان زنزانته من ورق عليه ان يدرب نفسه على قراءة ما تقع عليه عيناه ويحمل حواسه فهو احيانا يصاب بالعمى من فرط الحذر واحيانا يهرب امام ظل الحبل حتى لو كان حبل غسيل ظنا منه انه ثعبان، فهل تأزف تلك اللحظة التي يواجه بها المذعور اسرار ذعره، ويتجرأ السجين على فحص جدران زنزانته؟
الامر برمته منوط بثقافة اخرى ذات اطروحات مضادة لفقه التدجين وتحويل البشر الى قطعان تعيش لتأكل وليس العكس هذا اذا وجدت ما يسد رمقها.
ما يحدث الان على امتداد كوكبنا هو اكتشاف الانسان لاسرار زنزانته الورقية، واكتشاف النمر لذاته بعد ان عاش معظم ايامه خروفا!
( الدستور )