«الثورة السورية» بعد عام ونصف العام

كثيرة هي الأسباب التي حالت دون وحدة المعارضة السورية، برغم المحاولات والمبادرات التي قامت بها أطراف عديدة، بعضها مخلص للقضية السورية، وبعضها الآخر “مُغرضٌ” بامتياز...من بين أبرز هذه الأسباب، الظروف المشوهة و”غير الطبيعية” التي عاشتها فصائلها طوال نصف قرن من الاستبداد...ارتهان تيارات رئيسة من المعارضة لمراكز اقليمية ودولية متضاربة الأهداف والمصالح...غياب أي حوار حقيقي بين مكونات المعارضة، وهيمنة لغة الاتهام والابتزاز والتخوين بين أطرافها، ما حال دون اتفاقها على برنامج عمل واقعي مشترك لقيادة التغيير وادارة المرحلة الانتقالية.
بعد مرور عام ونصف العام من اندلاع الثورة السورية، يمكن القول، ومن دون تردد، أن المعارضة السورية، كانت “الضحية الأولى” لرهاناتها وتحالفاتها...لقد بنت “استراتيجية” للتغيير معتمدة على فرضية السقوط السريع للنظام، اعتماداً على “قوة الخارج” والتدخل العسكري المُنتظر والمُرتجى...لم تبذل ما يكفي من الوقت والجهد، لبلورة خريطة طريق تعتمد على طاقات الشعب السوري، وتحفظ للثورة طابعها “الجماهيري” السلمي ... ولم تبذل ما يكفي من محاولات لـ”ترتيب بيتها الداخلي”...ولماذا تفعل ذلك أصلاً طالما أن التغيير سيأتي سريعاً، وعلى ظهور الدبابات وأجنحة الطائرات الأطلسية (بالمناسبة هذا الكلام قيل بحرفيته على لسان قادة في المجلس الوطني في مؤتمر البحر الميت الأول للمعارضة).
على الدوام، كان بالامكان القاء اللائمة على “طرفٍ” آخر، وتحميله المسؤولية عن المآلات الصعبة التي انتهت اليها المعارضات السورية...ان أنت قلت: إن الرهان على الخارج سيأتي بالحرب الأهلية والتقسيم، أتُهمتَ على الفور بأنك لا تعرف ما يكفي عن “دموية النظام”، وأن النظام ذاهب ٌالى الحرب الأهلية مهما عملت المعارضة أو قررت...وان أنت تساءلت عن “موقع الشعب السوري” في استراتيجية التغيير التي تعتمدها المعارضة، قيل لك أن هذا النظام لن يسقط الا على الطريقة الليبية، التي لا تحتاج سوى لبضعة أشهر في أقصى تقدير، حتى يُعاد انتاجها سورياً...وان أنت تساءلت عن الأسباب التي تحول دون بناء جبهة متحدة للمعارضة، طالعك القوم بمرافعة سردية عن تاريخ الانقسامات والتشققات في الحركات التحررية والديمقراطية في العالم، لا أحد يأتيك بتجربة واحدة للدلالة على أهمية “الوحدة” في مواجهة “العدو المشترك”، الجميع منهمك في البحث عن تجارب حصل فيها التغيير دونما اضطرار للمرور باستحقاق الوحدة “المؤلم” و”العبثي”.
من دون التقليل من أثر “دموية النظام” وخياره العنفي غير المسبوق في ثورات ربيع العرب، فان أي مراجعة نقدية لتجربة المعارضة، يجب أن تلحظ في المقام الأول (وليس الأخير) مسؤولية المعارضة عن المآلات الصعبة التي انتهت اليها، حيث فقدت صلتها بالأحداث الجارية على الأرض وسلمت زمام قيادها الى ميليشيات وكتائب وأذرع، وأخلت ساحات التظاهر وميادين العمل الجماهري لخنادق وبيارق الجيش السوري الحر وغيره من التشكيلات العسكرية وشبه العسكرية.
كنا نتحدث عن ثلاثة آلاف قتيل، حين كان بعض المعارضة يرى أن شلال الدم يجعل من المستحيل عليهم البحث في أية خيارات وبدائل عن “الحسم العسكري الناجز”...ها نحن نتحدث اليوم عن ثلاثين ألف قتيل و”الحسم” لم يتحقق بعد، ولا يبدو أنه سيتحقق في الأفق المنظور...كنا نتحدث عن تعذر قطع “الهاوية” بقفزة واحدة، وعن الحاجة لبناء “نقاط ارتكاز” تمكن الشعب السوري من اجتيازها بصورة آمنة وتدريجية، تحفظ له نسيجه ولوطنه وحدته ولدولته مؤسساتها...لكن استعجال التغيير المدفوع بأجندات خارجية أو برهانات ليست في موضعها، كان على الدوام، سبباً يحول دون اعمال العقل والفكر والمنطق في اقتراح السياسات واجتراح البدائل.
أي تفكير خارج اطار “الحسم الناجز”، كان يعرض صاحبه للاتهام بالخيانة والعمالة...لقد رأيت واستمعت لمعارضين قضوا زهرة العمر في سجون النظام، وهم يتحدثون همساً عن “خيارات وبدائل”، بيد أن مناخات الاتهام والابتزاز كانت تمنعهم من الجهر بمواقفهم والدفاع عنها حتى نهاية المطاف، لقد كانوا قادرين على الجهر بمواقفهم المناوئة للنظام ودفعوا أثماناً باهظةً من حريتهم و بيد أن ضعفهم في مواجهة الابتزاز والاتهام، ألجمهم تماماً وحال دون قيامهم بدور كان مطلوباً، بل وحاسم الأهمية.
لقد حالت هذه المناخات، دون نجاح المعارضة في مخاطبة شرائح من النظام، يصنفونها اليوم، بعد خراب البصرة وحلب وحمص، بـ”غير الملطخة أيديها بدماء السوريين”...حالت دون نجاح المعارضة في مخاطبة شرائح واسعة من الشعب السوري، ما زالت تقف في المنطقة “الرمادية” بين النظام والثورة....حالت دون تمكين المعارضة من مخاطبة حلفاء النظام وداعميه، والتعامل مع مبادرات كان يمكن أن تسرع في انفضاضهم من حوله (روسيا على سبيل المثال)...حالت دون أن يتمكن المعارضون من مخاطبة بعضهم البعض، بعيداً عن التقاذف بالمقاعد والمنافض وأكواب الماء.
بعد عام ونصف العام على الثورة...بعد أكثر من ثلاثين ألف قتيل وأضعاف أضعافهم من الجرحى والمعتقلين والمشردين في وطنهم وجواره..بعد تحول معظم المدن السورية الى ما يشبه “مدن الحرب العالمية الثانية”...بعد الخراب الذي يصعب اصلاحه، في النسيج الوطني والاجتماعي السوري....بعد تحول سوريا الى ساحة لتصفية الحسابات و”صندوق بريد” لتبادل الرسائل الاقليمية والدولية...بعد انفلات السلاح والمسلحين والمليشيات والكتائب والعصائب والأذرع...بعد “الأفغنة” المنهجية المنظمة التي تتعرض لها سوريا...بعد كل هذا وذاك وتلك، ما زال البعض من المعارضين يجتر خطاب الأيام الأولى للثورة السورية، ويردد دون كلل أو وهن، شعاراته ورهاناته الخائبة الأولى.
لكن عجلة التاريخ لا تتوقف...ولا تنتظر طويلاً حتى يستفيق هؤلاء من غيبوبتهم..،ها هي الأزمة السورية تتجاوز الجميع، وتدخل في منعطفات نوعية تُخرج وقائعها من دائرة السيطرة والتحكم، بل وتُخرج الثورة عن أهدافها ومراميها الأولى...وتضع سوريا في غياهب المجهول ومغاليقه...وتلقي بهؤلاء على قارعة الطريق، وتدفع بحلفاء لهم للتخلي عنهم والبحث عن “خيول رهان جديدة”...و”خيول الرهان الوحيدة” اليوم هم حَمَلَةُ السلاح...هؤلاء هم من سيقرر مستقبل سوريا ووجهة التغيير فيها والضفاف التي سترسو عليها الأزمة وان بعد حين.
( الدستور )