ليبيا في مواجهة تحدي «الأفغنة»

لأكثر من ثلاثين عاماً، كانت ليبيا موطناً للحركات السلفية على اختلاف اتجاهاتها ومدارسها، بما فيها “السلفية الجهادية ذات الميول والارتباطات “القاعدية” الواضحة والمعلنة...القبضة الحديدية لنظام العقيد المقتول، حالت دون “انفلاش” الوضع وخروجه عن السيطرة...لجمت نفوذ “المجاهدين” وحدت من سطوتهم، بيد أنها لم تفلح أبداً في اجتثاثهم، وما كان لها أن تفلح في ذلك على أية حال.
سلفيو ليبيا و”جهاديوها”، لعبوا دوراً مؤثراً في ساحات المواجهة مع النظام...وكانت لهم غلبة واضحة في ميادين السلاح والمسلحين، وهذا أمر طبيعي ومفهوم، فهم الأكثر خبرة وتدريباً في الميادين “الجهادية”،وكثيرون من قادتهم وكوادرهم خاضوا معارك في “ساحات جهادية” شتى، في حين لم تكن لبقية التيارات ذات المعرفة وذات الدراية.
وقد توافرت لهذه الجماعات، مصادر دعم مالي لا تنضب، سواء عبر الأطر الرسمية “المخابراتية” أو من خلال القنوات الأهلية ...كان الهدف إسقاط “العقيد” بأي ثمن، وتصفية الحسابات ...وكان لأصحاب هذا الهدف ما أرادوا.
الغرب وقف متواطئاً مع تدفق المال والسلاح إلى الاتجاهات الإسلامية المتشددة...هو أيضاً يريد الخلاص من العقيد، ووضع اليد على مقدرات ليبيا ومشاريع إعادة الإعمار وخزانات النفط والطاقة فيها...ولهذا كله، غض الطرف عن خطر “الأفغنة” الزاحف على ليبيا، وسمح “عن سبق الترصد والإصرار” بإعادة إنتاج بعض فصول المسرحية الأفغانية الدامية والمفتوحة (المستمرة) حتى يومنا هذا.
وحتى بعد سقوط نظام العقيد، لم يطرأ أي تغيير ملموس على المقاربات الإقليمية والدولية لـ”المسألة الليبية”...لم تعد هناك حاجة لإرسال السلاح والمقاتلين...ليبيا أصبحت دولة مصدرة للسلاح والمجاهدين..المال متوافر أيضاً ولكن لا ضير في المزيد منه....ليبيا مرشحة لـ”تصدير ثورتها إلى الخارج”...سيما أن نذر ثورة أخرى، كانت تلوح في أفق المنطقة، وفي ساحة بالغة الأهمية والحساسية كالساحة السورية، حيث تتوافر هنا العديد من المصالح والحسابات التي يُراد تسويتها، ومن قبل ذات الأطراف التي نجحت في إسقاط القذافي.
ولهذا لم يكن غريباً على الإطلاق أن يصبح “الجهاد الليبي” مصدر دعم و”إشعاع” للمئات والألوف من “مجاهدي سوريا”...ولم يكن غريباً أن يلمع اسم عبد الكريم بالحاج في سوريا، أكثر من أي “مجاهد” سوري أو “أممي”، اللهم باستثناء الشيخ العرعور (كثير التردد على ليبيا)، وأن يكون “بطل ليبيا” الذي قدمته المواقع السلفية كمجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله ورسوله في أفغانستان والبوسنة وغيرهما، رمزاً من رموز الثورة السورية.
اليوم، تجد ليبيا نفسها في سباق محموم بين مسارين...مسار إعادة بناء الدولة ومؤسساتها وبسط شرعيتها وسلطانها...ومسار “طلبنة” ليبيا وتحويلها إلى “قاعدة للجهاد العالمي”...والوقائع الليبية تدفع للقول إن أي من المسارين، لم يسجل غلبة أو تقدماً على الآخر، بالرغم من نتائج الانتخابات الأخيرة، وشروع “المجلس التأسيسي” في بناء هياكل الدولة الجديدة.
ما حصل أمس من اعتداء على القنصلية الأمريكية في بنغازي والذي أدى إلى مصرع السفير الأمريكي وعدد من الدبلوماسيين، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن “مسار الطلبنة” ما زال يحتفط بكثير من الفرص والحظوظ والأدوات...وأن ليبيا الجديدة ما زالت مرشحة للانقلاب على حلفائها، تماماً مثلما انقلبت أفغانستان بالأمس، على كل من دعم “مجاهديها” للخلاص من نظام الحكم الشيوعي الكافر.
والمفارقة أن الهجوم على القنصلية ومصرع السفير، جاءآ متزامنين مع الذكرى الحادية عشرة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر\أيلول...لكأن هناك من يريد أن يذكر الولايات المتحدة بأنها لم تتعلم درس أفغانستان جيداً...وأنها ما زالت قادرة على مقارفة الخطأ ذاته، مرات ومرات.
نقاشات واشنطن وأجواؤها خلال الساعات الأربع والعشرين الفائتة، تعيد استحضار أسئلة الحادي عشر من أيلول برمتها...وقد أطفت أحداث بنغازي على هذه النقاشات طابعاً مثيراً للغاية، سيما أنها تأتي في حمأة الانتخابات الرئاسية، والأرجح أنها ستلقي بظلالها على مقاربة واشنطن لملفات أخرى مفتوحة في المنطقة، ومن بينها الملف السوري، فهل ستعمد إدارة أوباما إلى إحداث تغيير في مقاربتها للأزمة السورية في ضوء الحدث الليبي، أم أنها كما يعتقد البعض هنا، قد تعيد إنتاج الخطأ ذاته، وللمرة الثالثة على التوالي.
( الدستور )