بعيداً عن هبة الفزعات
لا تعجبني الفزعة، ولا سياستها في الرد على الأمور العظيمة، فكل فزعة لا يعول عليها، وهي تجيء بسرعة، وتضمحل بسرعة، وكأنها ما كانت. ولهذا فكل المظاهرات الصاخبة في مصر وليبيا وغيرهما من دول العالم الإسلامي، والتي خرجت منددة بأمريكيا بعد إطلاق الفيلم السينمائي (براءة المسلمين) للمخرج سام باسيل، تندرج تحت قائمة الفزعة.
يبدو أننا نمتلك طبيعة بشرية مختلفة، لا تخضع لفيزياء الأفعال وردودها وحساباتها، فنحن نحمى بأسرع من ملح بارود مُحمص، ولكننا نبرد بذات السرعة أيضاً وتخور قوانا، وكذلك نمتلك ذاكرة قوية للأحداث البعيدة (الذاكرة بعيدة المدى)، بحيث نتذكر تفاصيل الهجرات السامية من جزيرة العرب قبل آلاف السنين، وننسى ماذا كان عشاؤنا، أو عدد قتلانا في غزة أو درعا والحولى، وننسى كم إساءة صحفية وتلفازية كِيلت لِديننا، أو كم رسمٍ كاريكاتوري سخر من نبينا الكريم عليه السلام، فذاكرتنا قصيرة الأمد ضعيفة جدا، أو مهترئة!.
هناك من يتعمد الإساءة لديننا، وهذا معروف. ولكننا في المقابل، لا نمتلك إلا الفزعات السريعة رداً على هذا. ويبدو أيضاً أن العالم الغربي لا يعرف ديننا بشكل صحيح، فقد تركنا المتطرفين أمثال بن لادن والظواهري وغيرهما يرسمون صورتنا، وصورة ديننا عند الغرب والعالم.
بعد الرسوم الكاريكاتورية الدينامركية الساخرة، حمينا وانفجرنا بسرعة البارود، وأقمنا الدنيا ولم نقعدها، وبردنا بسرعة أيضاً، وكذلك سنفعل هذه الأيام، فسنبرد وننسى وكأن شيئا لم يكن؛ لأننا نتحرك تحت مبدأ (الفزعة)، ولهذا تجيء أعمالنا انفعالية، غير مبنية على روية التعقل والحكمة وبعد النظر!.
قبل سنتين نادى بعض العقلاء، أن يكون الرد على الرسوم الساخرة بداية لمشروع عالمي لإعادة رسم صورة رسولنا الكريم في العالم، ولكننا لم نفعل شيئاً، إلا أن نحتفل بمولده بالطريقة ذاتها، وبالروتين نفسه، فنعطل ونمعن بالنوم الهني حتى الظهيرة، فيما يتكفل التلفاز بإعادة فيلم الرسالة الشهير، الذي حفظناه عن ظهر قلب، وفيما يهب خطباء المساجد لتكرار خطبهم التي أطلقوها على مسامعنا في احتفال العام الفائت أو الذي قبله.
أرى أن يكون ردّنا علمياً وعقلانياً ومنطقياً وبمستوياته الشعبية والسياسية والفكرية هذه المرة، فالعالم الإسلامي ينفق مليارات على أغاني فضائيات التتفيه والترذيل، فلماذا لا ينفق جزءا يسيرا لتسويق ديننا بصورته الصحيحة، وبجوهره الحقيقي كدين عالمي إنساني ينبذ العنف ويدعو للفضيلة في الناس؟!!. ( الدستور )