الوجه الثالث للعملة !!

اعتدنا أن نشبه المتماثلة وذات الدلالة ذاتها بأنها وجهان للعملة الواحدة، والحقيقة ان للعملة وجهاً ثالثاً قلما نتحدث عنه، وهو معدنها أو المادة التي صنعت منها، ولأن الامر مجازي فثمة عملات سياسية وفكرية وثقافية من القصدير بحيث يغمر الصدأ الوجهين معاً، وحين يكون للعملة الاسرائيلية ولا أعني الشيكل او الاجاور بل الفلسفة والتصور وجهان هما الاحتلال والاستيطان، فان الوجه الثالث المسكوت عنه والمنسي هو معدن هذه العملة أي الفكرة الغيبية التي تأسست على الخرافة وضد التاريخ، لهذا فهي تحاول بشتى اساليب القوة والمراوغة ان تلوي عنق التاريخ ليستجيب للاسطورة فيسير الى الوراء وليس الامام، ويجعل من الماضي مستقبلاً لكن بعد اعادة انتاجه وتجميله وحذف واضافة ما تمليه الاستراتيجية اليه، لهذا رأى معظم دارسي الصهيونية ومنهم الراحل د. عبدالوهاب المسيري ان جغرافيا الدولة العبرية مطاطية ومرنة وقابلة للتمدد والانحسار تبعاً لمنسوب القوة وما يسندها من ظروف دولية، ففي عام 1948 كانت تلك الجغرافيا ذات حدود معينة، وبعد حرب حزيران اتسعت مما يجزم بأنها ليست ارض ميعاد او جغرافيا ميثولوجية لا تقبل الزيادة والنقصان.
وما يؤكد هذا التصور مقالة كتبها موردخاي هود قبل عقود، عن مفهوم الحدود في الدولة الحديثة ورأى ان الحدود هي تلك التي يتوقف فيها الجندي او يلقي سلاحه، لهذا فان هذا التصور للتاريخ يحوله الى اشتباك ابدي بين من يتمدد ومن يقاوم وبين من يستخدم فائض القوة ومن يعاني من نقصانها بحيث تصبح مفردات مثل الحقوق والعدالة خارج هذا القاموس كله.
ان هناك فلسفات ونظريات أشبه بالعملات لكن وجهها الثالث هو المادة التي صنعت منها وقدر تعلق هذا بالافكار والمفاهيم، فان المادة التي صنعت منها نظريات عنصرية واقصائية هي المحتوى الهش لتلك الافكار لأن كل هذا السجل من الاوهام والاساطير أنهى التاريخ صلاحيته، ومن يراهن عليه يحتاج باستمرار الى امرين هما قوة فائضة وعدالة محذوفة من المجتمع الدولي، واي تصحيح لهذا السياق ينتهي على الفور الى انتحار القوي بما يملك من قوة، لأن بذرة فناء وانقراض مشروعه السياسي تكمن في جذره وتنمو معه نحو النهاية المحتمة.
وإذا كنا كعرب قد سقطنا للمرة العاشرة في الفخ الذي يعزل النتائج عن المقدمات بحيث يصبح الاحتلال وهو سبب البلاءات كلها خارج الحاسوب الوطني ومعادلة الصراع، فاننا الآن نسقط في كمين آخر هو استبدال العدو التاريخي والوجودي والجذري بعدو من صُلبنا، وكأننا ننوب عنه ونعفيه من قتلنا لأننا نتولى هذه المهمة، لهذا قد تصلح مفردة ارحل في أي بلد في العالم باستثناء فلسطين لأن المطالبة بالرحيل على مدار اللحظة لا الساعة فقط هو الاحتلال.
هذا الكمين يتلخص في ادارة ظهورنا لاصل المشكلة، وتفرغنا لحروب الاخوة الاعداء التي تصبح بها الهزيمة أخيراً موزعة بالتساوي بيننا!
وليس معنى ذلك بأية حال دفاعاً عن نظم أو مؤسسات، فهي تنشأ وتزال بقوة ارادة الناس، في زمن لا متسع فيه لمستبدين، لكن ما نحذر منه وبالحاح هو ان يغيب الاحتلال وراء هذه الأكمات التي تعج بصراعاتنا وانتحاراتنا الوطنية! ( الدستور )