دائرة عبثيَّة

أقصى ما تضمره التجارب السياسيَّة الجديدة في مصر وتونس، في المدى المنظور، هو أنظمة ليبراليَّة تابعة؛ مثل تلك التي كانت قائمة في أربعينيَّات القرن الماضي وحتَّى أوائل خمسينيَّاته، والتي انهارتْ تحت وطأة توق الشعوب العربيَّة للتخلّص من التبعيَّة، وتحقيق العدالة الاجتماعيَّة، وتجاوز حالة الانقسام إلى الوحدة، والتأسيس لنهوضٍ وطنيّ وقوميّ شامل.
ومع ذلك، يتمُّ تصوير هذه الاستعادة الهزليَّة لنمط الحكم الليبراليّ التابع، الآن، على أنَّها صيغ ديمقراطيَّة متطوِّرة، في خلط متعمَّد وغير جديد بين الليبراليَّة وبين الديمقراطيَّة، مع أنَّهما نقيضان؛ إذ أنَّ الليبراليَّة، في جوهرها، هي المبادئ التي تؤسِّس لهيمنة رأس المال الكبير، منفرداً، على السلطة، وحصر تداولها في شرائحه العليا، وإطلاق يده لاستغلال الطبقات الشعبيَّة الفقيرة والمتوسِّطة؛ في حين تقوم الديمقراطيَّة على خلق ظروف اجتماعيَّة اقتصاديَّة ملائمة لجعل الأغلبيَّة الشعبيَّة تحكم نفسها بنفسها، فعلاً، ولتكون الدولة معبِّراً حقيقيّاً عن حقوقها ومصالحها.
وهذا الخلط الخبيث، يذكِّرنا بالحملة الإعلاميَّة المكثَّفة والطروحات النظريَّة الهابطة، التي رافقت محاولة المراكز الرأسماليَّة الدوليَّة، خلال العقدين الماضيين، استعادة نمط الرأسماليَّة المتوحِّشة؛ حيث سعتْ، مِنْ خلال تلك الحملة، إلى تصوير الليبراليَّة، التي هي في حقيقتها أيديولوجيا هذا النمط الجائر من الرأسماليَّة الذي كان سائداً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بأنَّها تطوير مهمّ للنظام الرأسماليّ الدوليّ، وأنَّ الأفكار المرتبطة بها هي فتح فكريّ غير مسبوق.
وفي الواقع، كانت هذه المحاولة النكوصيَّة، تعبيراً عن اشتداد أزمة الرأسماليَّة المتفاقمة وإفلاسها، بحيث أنَّه لم يعد أمامها إلا أنْ تدور في حلقة مفرغة لتعود إلى دفاترها العتيقة. فالتطبيق الفعليّ لليبراليَّة، عبر النمط المتوحِّش من الرأسماليَّة، كان قد وصل إلى طريق مسدود منذ زمنٍ بعيد، وقاد إلى انبثاق الأفكار الاشتراكيَّة كردٍّ فعل جذريٍّ عليه، وفجَّر انتفاضات وثورات العمّال والكادحين، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
أمَّا التطبيقات الليبراليَّة في ما كان يُسمَّى العالم الثالث (ومِنْ ضمنه عالمنا العربيّ)، فقد فرضها الاستعمار على البلدان التي اُضطُرَّ لانهاء وجوده المباشر والعلنيّ فيها تحت وقع ضربات حركة التحرّر الوطنيّ العربيَّة والعالميَّة التي تكثّفتْ بعد الحرب العالميَّة الثانية، خصوصاً بعد نهوض الاتِّحاد السوفييتي كقطب مضادّ للغرب. وكان هدف الغرب مِنْ ذلك هو تكوين بنية سياسيَّة ملائمة لسيطرة الطبقات الثريَّة المرتبطة بمصالحه الاقتصاديَّة والسياسيَّة، خصوصاً الإقطاع والكومبرادور، على السلطة، في الدول المستقلَّة حديثاً. إنَّها بنية الدولة التابعة، أو الكولينياليَّة.. كما سمَّاها مهدي عامل، أو بنية الاستعمار الجديد.. حسب التسمية التي شاعتْ خلال العقود الماضية. الأمر الذي جوبه بردٍّ فعلٍ قويّ مِنْ مختلف الشعوب، التي اُبتُليَتْ به، طوال عقود الخمسينيَّات والستينيَّات من القرن العشرين.
وأمَّا التجارب الديمقراطيَّة الحقيقيَّة، فأجهضها، بقسوة، الغرب، نفسه، الذي يزعم أنَّه نصير للديمقراطيَّة؛ ومِنْ أمثلتها: تجربة محمَّد مصدّق، في إيران؛ وسلفادور أللندي، في تشيلي.. الخ.
النتيجة التي قادتْ إليها المحاولة الأخيرة لاستعادة "فردوس" الرأسماليَّة المتوحِّشة، ماثلة للعيان؛ حيث عادت عواصم الغرب الإمبرياليّ، خلال العقدين الماضيين، إلى اتِّباع سياسات "البوارج الحربيَّة"، والإملاءات المتغطرسة، والحروب العدوانيَّة، والاستعمار المباشر، والنهب والاستغلال، بلا حدود أو ضوابط، للشعوب الفقيرة المغلوبة على أمرها؛ وهو ما قاد إلى الأزمة الاقتصاديَّة الطاحنة والمتفاقمة، التي نشهدها الآن، والتي لا سبيل إلى حلِّها. وفي هوامش النظام الرأسماليّ الدوليّ، قادتْ هذه المحاولة إلى تفشّي الفقر، والتخلّف، والصراعات الدمويَّة العبثيَّة، وتدمير البيئة، والتصحّر، وتفشِّي النزعات والقيم والثقافات ما قبل الرأسماليَّة.
فهل يظنَّن عاقلٌ أنَّ محاولة استعادة نمط الأنظمة الليبراليَّة التابعة، في البلاد العربيَّة، مرَّةً أخرى، ستقود إلى نتيجة أفضل مِنْ تلك التي قادت إليها في أربعينيَّات القرن الماضي وخمسينيَّاته؟
يقول ماركس: التاريخ يعيد نفسه مرَّتين؛ الأولى على شكل مأساة والثانية على شكل ملهاة. ( العرب اليوم )