خطيب يطالب بجُبتين .. وآخر يشكو من نوم «المصلين»!

اطرف ما سمعته في مؤتمر “الخطبة ودورها في بناء المجتمع” الذي نظمه المنتدى العالمي للوسطية بالتعاون مع الاوقاف والافتاء والجامعة الاردنية كان طلبا تقدم به احد الخطباء - على سبيل المزاح ربما - بضرورة صرف جبتين للخطيب احداهما صيفية واخرى شتوية، خطيب اخر شكا من “نوم” المصلين وقت الخطبة وذكر ان احد هؤلاء “وبّخه” لانه قطع عليه وصلة النوم، خطيب ثالث حمّل بعض المصلين “اكراه” الامام على الاختصار في الخطبة والصلاة، وقال بانهم يضيقون ذرعا بالبقاء نصف ساعة في المسجد مع انهم يجلسون امام “التلفاز” ساعات عديدة، وفي تعقيبه على ذلك ذكر بانه استفاد من “الممثلين” في جذب الجمهور ولم ينس ان يقول بان علاقته بالتمثيل قديمة.. وبأنه يحب هذا الفن.
لم تتوقف ملاحظات وشكاوى الخطباء تجاه جمهورهم، وانما سمعنا - ايضاً- هجوما مضادا من المشاركين والحاضرين على “الخطباء”، البعض اشار الى قلة “بضاعتهم” العلمية والثقافية، آخرون اشتكوا من توظيف الخطبة لغايات سياسية او حزبية، طرف ثالث اخذ على الخطباء ارتفاع صوتهم وحدّته، وعدم استعدادهم لتقديم مواضيع تليق بعقول مستمعيهم، اخرون ذكروا بان خطاب “المسجد” ما زال تقليدياً، وبان “الخطبة” لا علاقة لها احياناً بواقع الناس وحياتهم، وان بعض الخطباء يخيرون الناس بين الجنة والنار، ويضربونهم باسواط من الترهيب ويقدمون لهم الاسلام وكأنهم يعيشون قبل اربعة عشر قرنا.
حين كنت اصغي الى بعض مداولات المؤتمر خطر على بالي قيمة هذا المؤتمر الاسبوعي الذي يذهب اليه الناس بلا دعوة ولا اعلانات ولا اجبار من احد، قلت في نفسي: لماذا لا يستمثر المسلمون مثل هذا “الكنز” الذي يشكل اخطر وسيلة اعلامية متاحة، لماذا لا نبدأ باصلاح المسجد - مثلا - كي نضمن اصلاح غيره من المؤسسات والمرافق، لماذا كان المسجد فيما مضى من عصورنا يشعّ على الشارع والسوق فتتحول الامكنة كلها الى “مساجد” بينما اختفى هذا الشارع الان واصبح مقتصرا على زوايا المسجد فقط.
تساءلت ايضا: لماذا اهملنا خطباءنا ودفعناهم الى “الاحتجاج” للمطالبة بابسط حقوقهم في الزواج والمسكن والدخل الكريم، ولماذا لا نستثمر في هؤلاء الذين يعتبرون قادة وموجهين للرأي العام، ونعظم من مكانتهم الاجتماعية؟؟
من افضل النتائج التي انتهى اليها المؤتمر اصدار “ميثاق شرف للائمة والدعاة” واعتباره وثيقة دينية واخلاقية ملزمة، وهذا الميثاق ينص على التزام الخطيب بضوابط الشريعة ومقاصدها، وبأدبيات الحوار والنقاش والاختلاف، وبترسيخ دعوة الوحدة ونبذ العصبية والمذهبية المغشوشة، وبالحفاظ على امن البلدان وتنوعها واحترام اتباع الاديان الاخرى.. الخ.
وقفت ايضا في المؤتمر عند آفتين تعاني منها الخطبة في مساجدنا: احداهما آفة “التقليد” فالخطب التي نسمعها غالبا تبدو نسخة واحدة، وتستغرق كثيرا في الماضي، ولا تتضمن مواضيع تهم الناس في هذا العصر الذي يشهد تطورات مفزعة، اما الاخرى فهي آفة “التوظيف”، وانا - هنا - ضد استخدام المنبر سياسيا سواء اكان لمصلحة الحكومات والسلطات او لمصلحة الاحزاب والاتجاهات، فلا بدّ ان يستقل “المسجد” وان تكون “حرية” الخطيب مصانة، ما دام ملتزما بمقاصد الدين، وملتزما بالحفاظ على سلامة البلد.
في عصر “الثورات” العربية، اكتشف الجميع الدور الذي ينهض به المسجد في التحشيد واليقظة واكتشفوا بأن حضور الدين في الميادين ووصول “الاسلاميين” الى السلطة ما كان ليحدث لولا مساهمة “الخطباء” والائمة في دفع “الجماهير” نحو المطالبة بحقوقهم ورفع الظلم والاستبداد عنهم، لكن هذا الدور الذي نهضت به “المساجد” بخطبائها وائمتها ظل محكوما باثارة المشاعر، ومخاطبة الضمائر، ولم يصل الى “العقول” التي يقع عليها مهمة “التأسيس” والبناء، او مهمة الخروج من الثورات والتحولات الى بناء المشروع واقامة الدولة، وصناعة الانسان الجديد.
اذن، مهمة “المسجد” اليوم لا تتعلق فقط بالاشعاع الروحي الذي يمارسه الخطباء، وانما بالتنوير العقلي الذي يفترض ان يخرج من المسجد الى المجتمع ليصلحه ويغيرّ احواله.. واعتقد اننا لو احسنا اختيار الخطباء وتدريبهم ورعايتهم، واعدنا للمساجد “منزلتها” وغايتها، لاصبح مجتمعنا خاليا من كثير من المشكلات، ولوفرنا على اقتصادنا مليارات الدنانير.. ولما عدنا بحاجة الى اكثر من “مركز امن” واحد في كل مدينة.
( الدستور )