البعض يرى من الفيل أذنه فقط

يغطِّي دخان الصراع المحتدم، ومناخات الفكر اليوميّ (بحسب مهدي عامل)، كلَّ ما هو جوهريّ في المشهد السياسيّ الحاليّ، ويطمس معالم صورة اللحظة التاريخيَّة الراهنة وخطّ سيرها وآفاقها. لذلك، فحتَّى يتمكَّن الإنسان مِنْ رؤية المشهد بوضوح وبصورة سليمة، فإنَّه يحتاج لأنْ يرتقي بوعيه فوق اليوميّ والتفصيليّ، وأنْ يحاول النظر إلى المشهد مِنْ خارجه، وأنْ يوسِّع دائرة نظره حوله؛ وإلا غرق في التفاصيل اليوميَّة وفقد بصيرته وأصبح حاله كحال مَنْ نظر إلى الفيل، مِنْ قرب، فلم يرَ منه سوى أذنه. وإذا ما تركنا الحديث في العموميَّات، وانتقلنا إلى تطبيقها، فسيتعيَّن علينا أنْ نضع مشهد الصراع الدائر في منطقتنا الآن في إطاره الإقليميّ والدوليّ والتاريخيّ؛ كي لا نغرق في ركام تفاصيله ونعجز عن رؤيته. عندئذٍ، سنرى حقيقة أساسيَّة مهمّة، غيَّبها الإعلام السطحيّ والتضليليّ وقِصَر النظر وفقدان البصيرة والبصر؛ وهي أنَّ التطوّرات في المنطقة وفي العالم، تتَّخذ، منذ سنوات، مساراً ثابتاً ومضطرداً ومتنامياً؛ مِنْ معالمه الأساسيَّة ما يلي:
1. انَّ الأمريكيين وحلفاءهم وأتباعهم، يخسرون ويتراجعون، في منطقتنا وفي العالم، وأنَّهم أصبحوا في حالة دفاع دائمة عن مواقعهم السابقة والحاليَّة؛ بخلاف ما كان عليه الحال في مطلع تسعينيَّات القرن الماضي؛ حيث كانوا، آنذاك، يتّخذون وضع الهجوم الكاسح والشامل، في كلّ مكان، خصوصاً في منطقتنا. أمَّا الآن، فقد خسروا حربهم في العراق.. وتركوه لإيران؛ وخسروا حربهم في لبنان، التي خاضتها "إسرائيل" عام 2006، ضدّ حزب الله، بالوكالة عنهم؛ وها هم يخسرون حربهم في أفغانستان.
2. في خضمّ انشغال الأمريكيين وحلفائهم بحروبهم، تلك، أُعيدَ تشكيل النظام الدوليّ على حساب نفوذهم ودورهم؛ حيث تمكَّنتْ دول أمريكا اللاتينيَّة لأوَّل مرَّة في تاريخها مِنْ التقاط أنفاسها، وإنجاز خياراتها الديمقراطيَّة الخاصَّة، وإنهاء تبعيَّتها لجارتها اللدود في الشمال، والتعبير عن ذاتها المختلفة والمستقلَّة عبر تجمّع دول الكاريبيّ. وفي هذه الأثناء، أيضاً، تقدَّمتْ إلى واجهة المشهد الدوليّ، بقوّة، مجموعاتٌ ودولٌ أخرى، وأصبحت شريكاً أساسيّاً في القرار الدوليّ لا يمكن تجاهله؛ منها: روسيا والصين، ودول البريكس عموماً.
3. وبالتالي، ففي حين كان العالم، منذ مطلع تسعينيَّات القرن الماضي، يعيش تحت رحمة القطب الأمريكيّ الأوحد، ويخضع لإملاءاته وشروطه التي تشبه شريعة الغاب، أخذ يتَّجه الآن نحو القطبيَّة المتعدِّدة والتنوّع؛ ما يعني انفتاح الأبواب، أمام الشعوب والدول، لتعبِّر عن خياراتها المستقلَّة، وانتهاء حالة الانسداد التاريخيّ التي سادتْ طوال العقدين الماضيين.
4. خيارات الليبراليَّة الجديدة ونمط الرأسماليَّة المتوحِّشة، التي سعتْ المراكز الرأسماليَّة الأنجلوسكسونيَّة إلى فرضها على العالم، وصلتْ إلى طريقٍ مسدود، الآن، بعدما اتّضحتْ آثارها الكارثيَّة المدمِّرة على جميع الدول التي طبَّقتها، بما فيها الولايات المتَّحدة، نفسها، ودول الاتِّحاد الأوروبيّ، التي تعاني، الآن، مِنْ أزمةٍ اقتصاديَّة طاحنة لا أمل لها بحلّها؛ بل لا أمل لها بوقف تفاقمها إلى حدود شديدة الخطورة. وقد تركتْ آثاراً مأساويَّة كبيرة على مجمل تفاصيل حياة الناس في تلك البلدان.
5. وفي هذه الأثناء، تطرح أمريكا اللاتينيَّة، بقوَّة، بديلها الإنسانيّ المتحضِّر؛ المتمثِّل بالديمقراطيَّة الاجتماعيَّة، التي تعبِّر عن خيارات الغالبيَّة الشعبيَّة الحقيقيَّة الواعية لمصالحها، وتلبِّي مطالبها.. المتمثِّلة بفكّ التبعيَّة، وتبني اقتصاداتٍ وطنيَّة متمحورة على الذات، وإرساء دعائم العدالة الاجتماعيَّة، ووضع خططٍ طموحة للتنمية الوطنيَّة والنهوض.. والشروع بتنفيذها.
6. ومِن الواضح، أنَّ بؤرة هذا التحوّل الدوليّ التاريخيّ، الآن، هي سوريَّة، بما تمثِّله مِنْ خصوصيَّة في الدور وفي الجغرافيا السياسيَّة؛ لذلك، يتَّسم الصراع فيها بكلّ هذا القدر من الحدّة والاحتدام وتعدّد القوى والدول المتورِّطة فيه. ومع ذلك، فإنَّه يصعب تصوّر أنْ تكون النتيجة النهائيَّة معاكسة لمسار التطوّر التاريخيّ في العالم كلّه. أي أنْ يكسب الأمريكيون وحلفاؤهم وأتباعهم، هنا، بينما هم يخسرون، باضطراد، في كلّ مكانٍ آخر، ويعانون مِنْ أزماتٍ مستعصية في بلدانهم.( العرب اليوم )