الخاسرون

كلَّما اتِّخذتْ روسيا والصين وإيران ودول البريكس وسواها موقفاً حازماً ضدَّ التدخّل الأطلسيّ في سوريَّة، تداعت بعض الأصوات لتحذِّرها مِنْ أنَّ موقفها، هذا، سيجعلها تخسر العرب! يا للهول! كأنَّهم يعرفون مصالحها أكثر مِنْ معرفتها هي بها! ثمَّ مَنْ هم العرب الذين ستخسرهم تلك الدول؟ هل فيهم أحد لم يكن، في معظم تاريخه (إنْ لم يكن كلّه)، ربحاً صافياً وثابتاً للأمريكيين؟ اللهمَّ إلا في بعض الأوقات التي استغنى فيها الأمريكيون عنهم.
نعم، لم تربح هذه الدول (ولم تكن تتوهَّم أنَّها يمكن أنْ تربح) أحداً مِنْ حُرّاس الحوزات النفطيَّة الخاصَّة بالأمريكيين؛ ولا أحداً من الأوساط الاجتماعيَّة والسياسيَّة التي لا يندر أنْ تحشدها الولايات المتَّحدة لخوض حروبها بالوكالة؛ ابتداءً مِنْ حرب أفغانستان، ومروراً بحرب يوغسلافيا، وليس انتهاءً بحرب سوريَّة؛ فالسبيل الوحيد لكسب ودِّ هؤلاء وصداقتهم - لمن يرغب - هو كسب ودّ الولايات المتِّحدة وصداقتها. ما يجعلهم، في النهاية، بلا وزن وخارج الحسابات كلّها.
لقد كانت روسيا يلتسين، على سبيل المثال، صديقاً طيِّباً لمعظم هؤلاء، مع أنَّها باعت، علناً، جميع الحقوق والقضايا العربيَّة (والروسيَّة طبعاً) لـ"إسرائيل" وأمريكا؛ وهذا ما كانته لهم، أيضاً، إيران الشاه محمَّد رضا بهلويّ، صديق "إسرائيل" المخلص ومزوِّدها الرئيس بالبترول في ذلك الزمان. بل إنَّ معظم الدول التي يصطفّ معها هؤلاء، الآن، ضدّ سوريَّة، هي عدوّ علنيّ وثابت للقضايا والحقوق العربيَّة، وتزدهر فيها الدعاية العنصريَّة المضادَّة للعرب. ولنتذكَّر، على سبيل المثال فقط، أين وقعت الإساءات المتكرِّرة، للرسول العربيّ الكريم، خلال السنوات الأخيرة. وفي المقابل، لم تحدث إساءة واحدة، للعرب ومقدَّساتهم، في الدول الصديقة، التي يعاديها بعض العرب، الآن، بسبب وقوفها في وجه تلهّف الأطلسيّ لاقتناص سوريَّة والفتك بها. بل إنَّ المدَّعي العامّ، في روسيا، تقدَّم، قبل أيَّام، للمحكمة العليا، في بلاده، طالباً منها أنْ تحكم بحظر الفيلم المسيء للرسول الكريم في عموم الأراضي الروسيَّة، وقد أصدرتْ تلك المحكمة، بالفعل، قراراً واضحاً وحازماً بحظر ذلك الفيلم. وللطرافة، والدلالة على مدى الاستلاب الثقافيّ الذي يعاني منه بعض أبناء جلدتنا، نلفتُ النظر إلى أنَّ بعض الصحف اكتفى بنشر خبرٍ صغيرٍ عن هذا الإجراء الروسيّ المهمّ، وجعله تحت عنوان: "روسيا تحجب موقع يوتيوب"! أي أنَّه حوَّل محاربة الإساءة، من الحكومة الروسيَّة، إلى قضيَّة تجاوز على الحريَّات. وهو، بهذا، يدعم، بقصدٍ أو بغير قصد، زعم المسؤولين الأمريكيين والفرنسيين المنافق بأنَّهم لا يستطيعون أنْ يفعلوا شيئاً تجاه الإساءات التي تُمارس على أرضهم ضدّ الرسول العربيّ الكريم.. لأنَّهم ملزمون باحترام حريَّة الرأي والتعبير! في حين أنَّ بلدانهم تحظر حتَّى بعض أشكال النقد الموجّة لـ"إسرائيل"، بحجَّة أنَّه نوعٌ من العداء للساميَّة. وفي فرنسا، تحديداً، يُدان، بموجب قانون غايسو، كلّ مَنْ يقول إنَّ النازيين قتلوا من اليهود أقلَّ مِنْ ستة ملايين.
العرب، في الواقع، عَرَبان: عرب أمريكا.. الذين يصادقون مَنْ تصادق ويعادون مَنْ تعادي.. بمن في ذلك أنفسهم ومصالحهم. وهؤلاء، لا أحد عاقل يتوهَّم أنَّه يستطيع كسبهم بينما هو يصارع أمريكا أو يتنافس معها؛ والعرب العرب، الذين يقفون مع أنفسهم؛ فيتَّخذون مِنْ مواقف الآخرين، تجاههم وتجاه مصالحهم وحقوقهم وقضاياهم، معياراً للصداقة والعداوة. وهؤلاء، بالتحديد، وليس أولئك، هم مَنْ بأخذهم الآخرين بحسبانهم ويفكِّرون بأهميَّة كسبهم أو حتَّى خسرانهم. ( العرب اليوم )